للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلمت حينئذ أن سبب ذلك عدم الحفظ للأشعار، والاقتناع بالنظر في دواوينهما، ولمّا نصبت نفسي للخوض في علم البيان ورمت أن أكون معدودا من علمائه علمت أن هذه الدرجة لا تنال إلا بنقل ما في الكتب الى الصدور والاكتفاء بالمحفوظ عن المسطور:

ليس بعلم ما حوى القمطر ... ما العلم إلّا ما حواه الصّدر

ولقد وقفت من الشعر على كل ديوان ومجموع، وانفدت شطرا من العمر في المحفوظ منه والمسموع، فألفيته بحرا لا يوقف على ساحله، وكيف ينتهي إلى إحصاء قول لم تحص أسماء قائله، فعند ذلك اقتصرت منه على ما تكثر فوائده، وتتشعب مقاصده، ولم أكن ممن أخذ بالتقليد والتسليم، في اتباع من قصر نظره على الشعر القديم؛ إذ المراد من الشعر إنما هو إيداع المعنى الشريف، في اللفظ الجزل واللطيف، فمتى وجد ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل، وقد اكتفيت في هذا بشعر أبي تمام حبيب بن أوس وأبي عبادة الوليد وأبي الطيب المتنبي، وهؤلاء الثلاثة هم لات الشعر وعزّاه ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء.

أما أبو تمام فإنه ربّ معان، وصيقل ألباب وأذهان، وقد شهد له بكل معنى مبتكر، لم يمش فيه على أثر؛ فهو غير مدافع عن مقام الإغراب، الذي برز فيه على الأضراب، ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير، ولم أقل ما أقول فيه إلا عن تنقيب وتنقير؛ فمن حفظ شعر الرجل وكشف عن غامضه وراض فكره برائضه أطاعته أعنة الكلام، وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام؛ فخذ مني في ذلك قول حكيم، وتعلّم ففوق كل ذي علم عليم.

وأما أبو عبادة البحتري فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنّى، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق، فبينا يكون في شظف نجد إذ تشبث بريف العراق، وسئل أبو الطيب المتنبي عنه، وعن أبي تمام، وعن نفسه؛ فقال: أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري، ولعمري إنه أنصف في

<<  <  ج: ص:  >  >>