للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ههنا على وصف الأسد، وهذا أبين في المفاضلة من التوارد على معنى واحد يصوغه هذا في بيت من الشعر وفي بيتين ويصوغه الآخر في مثل ذلك؛ فإن بعد المدى يظهر ما في السوابق من الجواهر، وعنده يتبين ربح الرابح وخسر الخاسر.

فإذا شئت أن تعلم فضل ما بين هذين الرجلين فانظر إلى قصيدتهما في مراثي النساء التي مفتتح إحداهما.

يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ... كناية عن أكرم العرب «١»

وهي لأبي الطيب، ومفتتح الأخرى:

غروب دمع من الأجفان ينهمل ... وحرقة بغليل الحزن تشتعل

وهي للبحتري؛ فإن أبا الطيب انفرد بابتداع ما أتى به من معاني قصيدته، والبحتري أتى بما أكثره غث بارد، والمتوسط منه لا فرق فيه بين رثاء امرأة أو رجل.

ومن الواجب أنه إذا سلك الناظم أو الناثر مسلكا في غرض من الأغراض ألّا يخرج عنه، كالذي سلكه هذان الرجلان في الرثاء بامرأة، فإن من حذاقة الصنعة أن يذكر ما يليق بالمرأة دون الرجل، وهذا الموضع لم يأت فيه أحد بما يثبت على المحكّ إلا أبو الطيب وحده، وأما غيره من مفلقي الشعراء قديما وحديثا فإنهم قصروا عنه.

وله في هذا المعنى قصيدة أخرى مفتتحها:

نعدّ المشرفيّة والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال

وكفى بهما شاهدا على ما ذكرته من انفراده بالإبداع فيما أتى به، والفتيا عندي بينه وبين البحتري أن أبا الطيب أنفذ في المضيق، وأعرف باستخراج المعنى الدقيق، وأما البحتري فإنه أعرف بصوغ الألفاظ، وحوك ديباجتها، وقد قدمت أن الحكم بين

<<  <  ج: ص:  >  >>