للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خذلته قوّته وقد كافحته ... فاستنصر التّسليم والتّجديلا

سمع ابن عمّته به وبحاله ... فمضى يهرول أمس منك مهولا

وأمرّ ممّا فرّ منه فراره ... وكقتله ألّا يموت قتيلا

تلف الّذي اتّخذ الجراءة خلّة ... وعظ الّذي اتّخذ الفرار خليلا

وسأحكم بين هاتين القصيدتين، والذي يشهد به الحق وتتقيه العصبية أذكره، وهو أن معاني أبي الطيب أكثر عددا، وأسدّ مقصدا، ألا ترى أن البحتري قد قصر مجموع قصيدته على وصف شجاعة الممدوح: في تشبيهه بالأسد مرة، وتفضيله عليه أخرى، ولم يأت بشيء سوى ذلك، وأما أبو الطيب فإنه أتى بذلك في بيت واحد، وهو قوله:

أمعفّر الّليث الهزبر بسوطه ... لمن ادّخرت الصّارم المصقولا

ثم إنه تفنن في ذكر الأسد؛ فوصف صورته وهيئته، ووصف أحواله في انفراده في جنسه وفي هيئة مشيه واختياله، ووصف خلق نجله مع شجاعته، وشبه الممدوح به في الشجاعة، وفضّله عليه بالسخاء، ثم إنه عطف بعد ذلك على ذكر الأنفة والحمية التي بعثت الأسد على قتل نفسه بلقاء الممدوح، وأخرج ذلك في أحسن مخرج، وأبرزه في أشرف معنى، وإذا تأمل العارف بهذه الصناعة أبيات الرجلين عرف ببديهة النظر ما أشرت إليه، والبحتري وإن كان أفضل من المتنبي في صوغ الألفاظ وطلاوة السبك فالمتنبي أفضل منه في الغوص على المعاني، ومما يدلك على ذلك أنه لم يعرض لما ذكره في أبياته الرائية لعلمه أن بشرا قد ملك رقاب تلك المعاني واستحوذ عليها، ولم يترك لغيره شيئا يقوله فيها، ولفطانة أبي الطيب لم يقع فيما وقع فيه البحتري من الانسحاب على ذيل بشر؛ لأنه قصر عنه تقصيرا كثيرا، ولما كان الأمر كذلك عدل أبو الطيب عن سلوك الطريق وسلك غيرها، فجاء فيما أورد مبرزا.

واعلم أن من أبين البيان في المفاضلة بين أرباب النظم والنثر أن يتوارد اثنان منهما على مقصد من المقاصد يشتمل على عدة معان؛ كتوارد البحتري والمتنبي

<<  <  ج: ص:  >  >>