للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفصاحة والبلاغة والكشف عن دقائقهما وحقائقهما، فينبغي أن أختمه بذكر فضليهما؛ فأقول:

اعلم أن هذا الفن هو أشرف الفضائل، وأعلاها درجة، ولولا ذلك لما فخر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عدة مواقف، فقال تارة: «أنا أفصح من نطق بالضّاد» ، وقال تارة:

«أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي: كان كلّ نبيّ يبعث في قومه بعثت إلى كلّ أحمر وأسود، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طيّبة وطهورا، ونصرت بالرّعب بين يدي مسيرة شهر، وأوتيت جوامع الكلم» ؛ وما سمع بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم افتخر بشيء من العلوم سوى علم الفصاحة والبلاغة، فلم يقل إنه أفقه الناس، ولا أعلم الناس بالحساب، ولا بالطب، ولا بغير ذلك، كما قال: «أنا أفصح من نطق بالضاد» .

وأيضا فلو لم تكن هذه الفضيلة من أعلى الفضائل درجة لما اتصل الإعجاز بها دون غيرها؛ فإن كتاب الله تعالى نزل عليها، ولم ينزل بمعجز من مسائل الفقه، ولا من مسائل الحساب، ولا من مسائل الطب، ولا غير ذلك من العلوم.

ولما كانت هذه الفضيلة بهذه المكانة صارت في الدرجة العالية، والمنثور منها أشرف من المنظوم؛ لأسباب: من جملتها أن الإعجاز لم يتصل بالمنظوم، وإنما اتصل بالمنثور؛ الآخر: أن أسباب النظم أكثر، ولهذا نجد المجيدين منهم أكثر من المجيدين من الكتاب، بل لا نسبة لهؤلاء إلى هؤلاء، ولو شئت أن تحصي أرباب الكتابة من أول الدولة الإسلامية إلى الآن لما وجدت منهم ممن يستحق اسم الكاتب عشرة، وإذا أحصيت الشعراء في تلك المدة وجدتهم عددا كثيرا، حتى لقد كان يجتمع منهم في العصر الواحد جماعة كثيرة كل منهم شاعر مفلق، وهذا لا نجده في الكتاب، بل ربما ندر الفرد الواحد في الزمن الطويل، وليس ذلك إلا لوعورة المسلك من النثر، وبعد مناله، والكاتب هو أحد دعامتي الدولة؛ فإن كل دولة لا تقوم إلا على دعا متين من السيف والقلم؛ وربما لا يفتقر الملك في ملكه إلى السيف إلا مرّة أو مرتين، وأما القلم فإنه يفتقر إليه على الأيام، وكثيرا ما يستغني به عن السيف، وإذا سئل عن الملوك الذين غبرت أيامهم لا يوجد منهم من

<<  <  ج: ص:  >  >>