من الزنجية والتركية والرومية، وفى إجماعنا على خلاف هذا دليل على بطلان ما قالوه. ولأنه لو كان كذلك لكان يجب أن يكون فيه من هذه اللغات قدرا يعلم به المراد، ويقع به التبليغ، فأما هذه الكلمات الشاذة فلم يعلم بها شىء ولا يقع بها بيان، ولأنه وإن كان مبعوثا إلى الكافة إلا أن القصد إعجاز العرب، فإنهم أهل اللسان والفصاحة والبيان، فإذا ظهر عجزهم عن الإتيان بمثله دل على أن غيرهم عن ذلك أعجز وثبت صدقه فى حق الجميع.
وعلى هذا الترتيب أجرى الله تعالى أمر معجزات الأنبياء، فبعث موسى عليه السلام إلى أحذق (١) الناس بالسحر فى زمان كانوا يدعون السحر، فجعل معجزته من جنس ما يدعونه حتى إذا عجزوا عن مثله دل على أن غيرهم أعجز.
وبعث عيسى عليه السلام فى زمن الأطباء، وجعل معجزته من جنس ما يتعاطونه، حتى إذا اعترفوا بالعجز عن مثله دل على أن غيرهم عن ذلك أعجز.
فكذلك هاهنا لما كانت العرب فى ذلك الزمان أفصح الناس لسانا، وأحسنهم بيانا جعل المعجزة من جنس ما كانوا يدعونه ليكون ذلك أظهر فى الإعجاز وأبين فى الدليل. هذا وبعد ذكر آراء العلماء فى هذه المسألة يتضح لنا جليّا قوة ما ذهب إليه الجمهور للأدلة التى استدل بها وسلامتها مما يعارضها.
والعرب لا شك من أقدم الأمم ولغتهم من أقدم اللغات وقد اختلطوا بغيرهم كثيرا. وكان الرومان يستأجرون منهم الجنود والعساكر لما عرفوا
(١) أحذق الناس بالسحر أى أمهرهم يقال حذق الصبى القرآن والعمل إذا مهر وبابه ضرب- مختار الصحاح ١٢٧.