للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإن كان العمل صحيحًا كما ورد: " من صلى في ثوب قيمته عشرة دراهم فيه درهم حرام لم يقبل الله له صلاة ما دام عليه " رواه أحمد، وكما ورد: " من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحًا " رواه الترمذى وحسنه، وإذا حمل عدم القبول على انتفاء الثواب فلا اختصاص له بالبدعة بالمعنى الذى زعموا حتى يدل على اعتبار معنى التشريع في مفهومها، ألا ترى شرب الخمر والدرهم الحرام جرى عليهما عدم

القبول بهذا المعنى وليس يجب أن يكون بدعة بما زعموا؟ وما وقع في حديث حذيفة السابق: " يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين " لا يدل أيضًا على ما اعتبروه في معنى البدعة، كيف وهم لم يطردوه في كل مبتدع، فقد صرحوا بأنه إن قصد بابتداعه استدراك الطرق على الشارع وأنَّه علم ما لم يعلم الشارع فهو كفر إلَّا فالابتداع ضلال مبين.

وبالجملة فالنعوت التى جرت على البدعة لا تخصها بالمعنى الذى ذكروا حتى تدل على اعتبار ما اعتبروا، وكذا التوصيف بالضلال لا يقتضى ما أرادوه؛ لأنَّه يقال لكل عدول عن المنهج عمدًا كان أو سهوًا يسيرًا كان أو كثيرًا. قال أبو البقاء: الضلال في القرآن يجئ لمعان منها: الغى والفساد، ومنه: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} (١)، وظاهر أن هذا المعنى يصح إرادته في حديث كل بدعة ضلالة، ومن معانيه أيضًا: الخسار، ومنه: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} (٢) والزلل، ومنه: {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} (٣) والبطلان، ومنه: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (٤) والجهالة، ومنه: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} (٥). وكل هذه المعانى يصح إرادتها في الحديث ولا اختصاص لها بما زعموا.

وانظروا ماذا يصنعون في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل حدثة بدعة" مع أن فيه وجوه التعميم الثلاثة التى ذكروها مع أن من المحدثات ما ليس ببدعة بالمعنى الذى أرادوا ولا سبيل إلَّا اعتبار التخصيص بأن يراد محدثة على أنها دين، ومثل هذا يمكن ارتكابه لو فرضنا عموم البدعة وشمولها كل محدثة إذا تم لهم أن النعوت التى ذكروها تخص ما اعتبروا، قال في " الاعتصام ": ثم إن البدع على ضربين كلية وجزئية، فأما الكلية: فهى السارية فيما لا ينحصر في فروع الشريعة كبدعة التحسين والتقبيح العقليين وإنكار العمل بالأخبار النبوية وقد تقدم وجهه.

وأما الجزئية: فهى الواقعة في


(١) [سورة النساء: الآية ١١٩].
(٢) [سورة غافر: الآية ٢٥].
(٣) [سورة النساء: الآية ١١٣].
(٤) [سورة محمد: الآية ٨].
(٥) [سورة الشعراء: الآية ٢٠].

<<  <   >  >>