للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولو في بعض الأوقات أو في بعض الأحوال ويقنعوا منه بذلك ليبقى لهم بتلك الموافقة واهى بنائهم، فأبى صلوات الله وسلامه عليه إلَّا الثبات على واضح الحق والتمسك بخالص الصواب وأنزل الله تعالى عليه: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (١) السورة.

فلما يئسوا منه نصبوا له حرب العدارة، ورموه بسهام القطيعة، حتى صار أهل السلم كلهم حربًا عليه، وعاد الولى الحميم له عدوًّا لدودًا. فأقربهم إليه نسبًا كان أبعد الناس عن مولاته كأبى لهب وأضرابه. وألصقهم به رحمًا كانوا أقسى قلوبًا عليه. فأى غربة توازى هذه الغربة، ومع ذلك فلم يكله الله تعالى إلى نفسه ولا مكنهم من اغتياله، بل حفظه الله وعصمه وتولاه بالرعاية والوقاية حتى بلَّغ دعوة ربه مصداق قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (٢) أن يقتلوك.

ثم ما زالت الشريعة الغراء في أثناء نزولها تباعد بين أهلها وبين غيرهم وتضع الحدود بين حقها وباطلهم، لكن على وجه من الحكمة عجيب، وهو التأليف بين أحكامها وبين أكابرهم في أصل الدين الأصيل.

ففى العرب نسبتهما إلى أبيهم إبراهيم عليه السلام، وفى غيرهم لأنبيائهم المبعوثين فيهم، كقوله تعالى بعد ذكر كثير من الأنبياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (٣) وقوله عزَّ وجلَّ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (٤).

وما زال صلوات الله وسلامه عليه يدعو إلى الشريعة فيأتى إليه الواحد بعد الواحد على طريق الاختفاء خوفًا من اعتداء الكفار أيام ظهورهم على دعوة الإسلام، فلمَّا علموا المخالفة أنفوا وقاموا وقعدوا. فمن أهل الإسلام من لجأ إلى قبيلة

فحموه على إغماض أو خشية العار في الإخفار والجوار، ومنهم من هاجر فرارًا بدينه من الفتنة باشتداد الأذى وتوقع القتل من أجله، ومنهم من لم يكن له وزر يحميه ولا ملجأ يركن إليه فلقى منهم من الشدة والغلظة أنواع التعذيب والقتل ما لا تحتمله الجبال الراسيات حتى زل منهم من زل وبقى منهم من بقى صابرًا محتسبًا إلى أن


(١) [سورة الكافرون: الآيتان ١، ٢].
(٢) [سورة المائدة: الآية ٦٧].
(٣) [سورة الأنعام: الآية ٩٠].
(٤) [سورة الشورى: الآية ١٣].

<<  <   >  >>