للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أنزل الله تعالى الرخصة في التلفظ بكلمة الكفر على وجه الموافقة ظاهرًا فلجأ إليها من لجأ على حكم الضرورة والوقاية لنفسه، ريثما يتنفس من كربه ويتروح من خناقه، وقلبه مطمئن بالإيمان وهذه أيضًا غربة. وإنما فعل هؤلاء البعداء الأعداء ما فعلوا جهلًا منهم بمواقع الحكمة وإن ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه هو الحق ضد ما هم عليه: "فمن جهل شيئًا عاداه" ولو تعقلوا الأمر وعلموه لحصل الوفاق ولم يقع الخلاف.

ثم استمر تزايد الإسلام واستقام طريقه مدة حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بعد موته وأكثر قرن الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة، وأصغوا إلى البدع المضلة كبدعة القدر وبدعة الخوارج، وهو الأمر الذى تنبأ به رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بقوله: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم" (١) ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة" (٢) وقوله فيما رواه أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم"، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " (٣) أخرجه البخارى. والحديث الأول خاص بأهل الأهواء، والثانى عام في المخالفات بدليل قوله: "حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم" وكل صاحب بدعة من شأنه أن يدعو غيره إليها ويحض سائليه؛ بل سواه عليها؛ إذ طلب التأسى في الأعمال والمذاهب أمر جِبِلِّىٌّ في بنى الإنسان.

ومن هنا ينشأ الخلاف وتقع العداوة والبغضاء بين المتمسكين والخارجين، وكان الإسلام في إبان نشأته وعنفوان شبابه مقاومًا، بل ظاهرًا وأهله غالبين - وسوادهم أعظم الأسودة، فخلا من وصف الغربة بكثرة الأهل والأولياء الناصرين. ولم يكن لسواهم - ممن لم يسلك سبيلهم أو سلكه


(١) أي لا يتفقهون فيه بل يأخذون بظاهره، وكل هذا في آخر عهد الصحابة.
(٢) رواه الترمذى من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، وقال: حسن صحيح.
(٣) أي غيرهم، كما في رواية أخرى لمسلم.

<<  <   >  >>