للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بقي النظر في قوله: " ومن ابتدع بدعة ضلالة "، وأن تقييد البدعة بالضلالة يفيد مفهومًا والأمر فيه قريب؛ لأن الإضافة فيه لم تفد مفهومًا وإن قلنا بالمفهوم على رأى طائفة من أهل الأصول فإن الدليل دل على تعطيله في هذا الموضوع كما دل دليل تحريم الرِّبَا قليله وكثيره على تعطيل المفهوم في قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً … } (١)، ولأن الضلالة لازمة للبدعة بإطلاق الأدلة المتقدمة فلا مفهوم أيضًا. انتهى.

يريد بهذا أبو إسحاق: أن هذا القيد لبيان ما يلزم البدعة من أنها ضلالة على الإطلاق، وقد تقدم أنه خلاف الظاهر، ولا يعزب عنك أنه جرى على قصر البدعة على الحادث المذموم، وقد علمت ما فيه فتنبه.

وإذا قطع النظر عن سبب الحديث يصح إن يراد منه الاختراع في أُمور الدنيا والتفنن فيها على وجه يلتئم مع أُصول الدِّين ومقاصده كاختراع الملاجئ والمستشفيات لإيواء اليتامى والبائسين، ومداواة المرضى من الفقراء، وصرف الأدوية لهم من غير أجر ولا ثمن، ومثل تكثير المعاهد الدينية وبناء الأروقة، ودور السكنى لطلاب العلم وإعانتهم عليه لاسيما الغرباء منهم، وإنشاء جمعية الرفق بالحيوان، فإن حسن مآثرها واضح جلى، مثل تطبيب الحيوانات، وحمايتها من الظلم، وبناء الأحواض في الميادين العمومية ليتيسر لها الشرب ودفع حرارة العطش، ومثل جمعية الإسعاف التي تقوم بخدمة الإنسانية لله تعالى وللمروءة، ومثل الطرق المسهلة لرقي الصناعة والتجارة، فكل هذه المخترعات ما شاكلها سنن حسنة يؤجر عليها صاحبها ويمدح عليها ولا يذم.

فإن شئت فهمت في الحديث الحث على إحياء السنة الدينية التى ورد بها الشرع كالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإحسان إلى الفقراء والنصيحة لكل مسلم والتعاون على البر وأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لها إلى غير ذلك من الأعمال التى دعا إليها الدين وحث على إحيائها، وإن شئت فهمت فيه الحث على التفكير في الأُمور الكونية التى بها ترقى الشعوب وتتقدم الأمم. ومعلوم أن الدين إنما ينهى عن الاختراع فيما حدده ورسمه على وجه مخصص كالعبادات، فلا يصح لك أن تغير فيه شيئًا بزيادة أو نقص أو تبديل كيفية من كيفياته،


(١) [سورة آل عمران: الآية ١٣٠].

<<  <   >  >>