ولم يمنع ما يمكن من أنواع الاختراع في الأُمور المعيشية والاجتماعية والعمرانية بشرط المحافظة على الأصول العامة وأن يكون أساس هذا الاختراع درء المفاسد وجلب المصالح وإقامة العدل وإماطة الظلم ورد المظالم إلى ذويها كما تقدم.
(الشبهة الثانية): " ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح ". ووجه الشبهة فيه ظاهر وهو أنه قال ما رآه المسلمون والظاهر ما رأوه بعقولهما فرجع التحسين إليهم، فهم المخترعون، ولو كان التحسين بالدليل لما نسب الرؤية إلى المسلمين فدل على أن البدعة فيها الحسن
والقبيح، وهى مدفوعة بأن هذا ليس بحديث مرفوع وإنما هو أثر موقوف على ابن مسعود فليس بحجة، سلمنا أنه حجة فليس المراد جنس المسلمين الصادق بالمجتهد وغيره لاقتضائه أن كل ما رآه آحاد المسلمين حسنًا فهو حسن، وكل ما رآه آحاد المسلمين قبيحًا فهو قبيح وهذا باطل لوجهين:
(الأول): أنه يناقض حديث: " ستفترق أُمتى على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلَّا واحدة " رواه عن النبي صلى -صلى الله عليه وسلم- عليه وآله وسلم جماعة من الصحابة كأنس بن مالك وأبى هريرة وأبى الدرداء وجابر وأبى سعيد الخدرى وأُبى بن كعب وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبى أُمامة وغيرهم. قال أبو منصور البغدادى: وجه المناقضة أن الحديث الأول يفيد أن كل مسلم لا يخطئ لأنَّه يرى أن ما ذهب إليه حسن فلا يكون في النار والثانى أفاد نقيض ذلك.
(الثانى): أنه يقتضى كون العمل الواحد حسنًا عند بعض الناس يصح التقرب به إلى الله تعالى، قبيحًا عند البعض الآخر لا يصح التقرب به وهو مذهب المصوبة (١) وإنما المراد به جميع المجتهدين فيكون إشارة إلى الإجماع أو خصوص الصحابة كما يفيده صدر الأثر، وكما يقتضيه التفريع بالفاء، كما سيأتى لك. ولك أن تقول: إن الحديث في العمل الذى لم يرد فيه
(١) هم القائلون: بأن الحكم هو ما عند المجتهد فيلزم من نفى الدليل نفى الحكم قطعًا إذ لا حكم عندهم سوى ما علمه أو ظنه المجتهد. والخطئة هم الذين يقولون: إن هناك حكمًا واقعيًّا تارة يصيبه المجتهد وتارة لا يصيبه.