للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وجلودهم، وإذا ذكرت فيه آيات الرَّحْمَة تبدَّلَت خشيتهم رجاء ورهبتهم رغبة.

وفى الحق أنه لم يعرف في تاريخ البشر أن كلامًا له من التأثير في النفوس والاستيلاء على القلوب مثل ما لهذا الكتاب الحكيم: {ذَلِكَ} الكتاب التى بينت بعض نعوته {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} هدايته بصرف مواهبه إلى الاهتداء بتأمله فيما حواه من شواهد الحقية ودلائل كونه من عند الله تعالى، فتمسك به واتبع هداه. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} يخذله بتعطيل مواهبه وإعراضه عن تدبره وسماع نصحه وإرشاده وعدم تأثره بوعده ووعيده فما له من أحد يخلصه من وهدة الضلال والشقاء.

قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (١). الإنابة: الرجوع، والإسلام: الاستسلام لأمره والخضوع لحكمه، وأحسن ما أنزل: هو القرآن، وبغتة: فجأة.

بعد ما بشرهم سبحانه بأنه يغفر الذنوب كلها لمن يشاء ما عدا الشرك أمرهم بالرجوع إليه تعالى يفعل الطاعات واجتناب المعاصى واتباع أحسن القرآن (والقرآن كله حسن) بإحلال حلاله وتحريم حرامه وامتثال أوامره واجتناب نواهيه من قبل أن ينزل بهما العذاب فجأة وهم لا يشعرون بمجيئه ليتداركوا ويتأهبوا له.

(هذا) وقد عرفت أن الإمام الشافعى رحمه الله ممن ينكر الاستحسان ولقد بالغ في إنكاره إذ نقل عنه أنه قال: " من استحسن فقد شرع "، ومعناه كما قال الرويانى: أنه نصب من جهة نفسه شرعًا غير الشرع، وقال في " الرسالة": "الاستحسان تلذذ، ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين لجاز ذلك لأهل العقول من غر أهل العلم، ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب، وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعًا": أي بمحض الهوى والشهوة وهذا غاية في الذم ونهاية في الإنكار {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (٢). ثم إنهم عرفوه بتعارف كثيرة، فمنهم من عرفه بما يتبادر منه


(١) [سورة الزمر: الآيتان ٥٤، ٥٥].
(٢) [سورة المؤمنون: الآية ٧١].

<<  <   >  >>