وإليك شرح هذا الحديث لتكون في المقام علي تمام البصيرة:"لا تشد الرحال" على صيغة المجهول نفى بمعنى النهى: أي لا تشدوا الرحال، رهو أبلغ من صريح النهى كأنه قال: لا يستقيم شرعًا أن يقصد بالسفر إلا هذه البقاع، لما اختصت به من المزايا التى شرفها اللّه تعالى بها، والرحال بالحاء المهملة: جمع رحل وهو للبعير كالسرج للفرس وهو أصغر من القتب، وشد الرحال كناية عن السفر؛ لأنَّه لازم للسفر، ووقع في رواية لمسلم "تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد" من غير حصر. وليس في هذه الرواية منع شد الرحال لغيرها إذ العدد لا مفهوم له
عند الجمهور، والتعبير بشد الرحال خرج مخرج الغالب في ركوب المسافر فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشى في هذا المعنى.
ويدل له قوله في بعض طرقه في الصحيح:"إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد" أخرجه مسلم.
وقوله:"إلا إلى ثلاثة مساجد": استثناء مفرغ وتقدير الكلام لا تشد الرحال إلى موضع أو مكان (فإن قيل) فعلى هذا يلزم ألا يجوز السفر إلى مكان غير المستثنى فلا يجوز السفر لزيارة إبراهيم الخليل عليه السلام مثلًا؛ لأن المستثنى منه في المفرغ لابد أن يقدر أعم العام.
(أجيب) بأن المراد بأعم العام ما يناسب نوعًا ووصفًا.
كما إذا قلت: ما رأيت إلا زيدًا كان التقدير ما رأيت رجلًا أو أحدًا إلا زيدًا لا ما رأيت شيئًا أو حيوانًا إلا زيدًا. فهاهنا تقديره لا تشد إلى مسجد إلا إلى ثلاثة:"المسجد الحرام" المحرم بالجر بدل من الثلاثة والرفع خبر لمحذوف تقديره هى المسجد الحرام "ومسجدى هذا والمسجد الأقصى" سمى به لبعده عن المسجد الحرام.
ومنه يستفاد فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لأن المسجد الحرام قبلة الناس وإليه حجهم، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسس على التقوى، والمسجد الأقصى كان قبلة الأمم السالفة، وفيه النهى عن شد الرحال إلى غير هذه الثلاثة لكن اختلفوا على أي وجه فقال النووى: معناه لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد ما غير هذه الثلاثة ونقله عن جمهور العلماء. وقال ابن بطال: هذا الحديث إنما هو