للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بعد المائتين من الهجرة، فقد كان الناس في القرون الثلاثة الفاضلة متعلقين بالحق تعالى باحثين عليه، إذا ناموا ناموا عليه، وإذا استيقظوا استيقظوا عليه، وإذا تحركوا تحركوا به، حتى إن من فتح الله بصيرته، ونظر إلى بواطنهم وجد عقولهم متعلقة بالله تعالى وبرسوله -صلى الله عليه وسلم- باحثة عن مرضاتهما، فلهذا كثر فيهم الخير، وسطع في ذواتهم نور الحق تعالى، وظهر فيهم من العلم وبلوغ درجة الاجتهاد ما لا يكيف مع قلة الزمن، فكانت تربية النفوس بالطريقة التى أحدثها المشايخ غير محتاج إليها، وربما يلقى الشيخ مريده فيكلمه في أذنه فيقع الفتح للمريد بمجرد ذلك، لطهارة ذواتهم وصفاء عقولهم، وتشوفها إلى طريق الرشاد.

ثم لما بعد عهد النبوة وتوارى نورها، واختلفت أيضا الآراء وكدَّر شِرب العلم شِرب الأهوية، وتزعزعت أبنية المتقين، واضطربت عزائم الزاهدين وغلبت الجهالات، وكثرت العادات، وتزخرفت الدنيا وكثر خطابها، تفرد طائفة بأعمال صالحة وأحوال سنية، واغتنموا العزلة، واتخذوا لنفوسهم زوايا يجتمعون فيها تارة وينفردون أخرى أسوة بأهل الصفة، تاركين الانهماك في الأسباب، مجتهدين إلى رب الأرباب، فأثمر لهم صالح الأعمال سنى الأحوال، وتهيأ صفاء الفهوم لقبول العلوم، وصار لهم بعد اللسان لسان، وبعد العرفان عرفان، وبعد الإيمان إيمان (كما قال حارثة): أصبحت مؤمنًا حقًّا، لما كوشف بمرتبة في الإيمان غير ما عهد، فصار لهم بمقتضى ذلك علوم يعرفونها وإشارات يعهدونها، فحرروا لنفوسهم اصطلاحات كثيرة إلى معارف يعرفونها، وتعرب عن أحوال يجدونها. فأخذ ذلك

الخلف عن السلف حتى صار ذلك رسمًا مستقرًّا وخيرًا مستمرًّا في كل عصر وزمان.

(وعلى الجملة) فللقوم رضي الله عنهم آداب كثيرة للشيخ المربى والتلميذ، تعرض لذكرها جلهم في مؤلفاتهم، فمنها ما هو مأخوذ من الكتاب والسنة إما نصًّا صريحًا أو تلويحًا، منهأ ما أخذ بطريق الوجدان والذوق، فما كان منها موافقًا للكتاب المبين وللسنة النبوية قلنا به، وما لم يدل عليه نص ولا يعارض نصًّا فلنا الخيار في العمل به، وما عارض نصًّا من كتاب أو سنة رددناه على قائله.

<<  <   >  >>