للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

معالجته أو تتعذر، فلابد من التسليم له في كل شيء من غير منازعة، وقالوا: إن الوصول إلى العرفان المطلق لا يكون إلا بهذا، ثم إنهم أحدثوا إظهار قبور من يموت من شيوخهم والعناية بزيارتها لتذكر سلوكهم ومجاهدتهم وأحوالهم ومشاهدتهم لأن التذكر من وسائل التأسى، والتأسى هو أقوم طرق التربية عند جميع الناس.

فتبين من هذا الإجمال أن قصدهم في هذه الأمور كان صحيحًا شريفًا وأنهم ما كانوا يريدون إلا الخير المحض لأن صحة القصد وحسن النية أساس طريقهم، ولكن تلك المقاصد الحسنة قد تغيرت ولم يبق من رسومهم الظاهرة إلا أصوات وحركات يسمونها ذكرًا يتبرأ منه كل صوفى، وإلا تعظيم قبور المشايخ تعظيمًا أتلف عقائد البسطاء، فاعتقدوأ أن لهم سلطة غيبية فوق الأسباب التى ارتبطت بها المسيبات لحكمته تعالى ومشيئته، بها يديرون الكون ويتصرفون كما يشاءون، وأنهم قد تكفلوا بقضاء مطالب مريديهم والمستغيثين بهم أينما كانوا، وهو اعتقاده مخالف لكتاب الله سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسيرة السلف من الصحابة والتابعين والمجتهدين.

وأقبح من هذا زعمهم أن الشريعة غير الحقيقة، فإذا ارتكب أحدهم ذنبًا فأنكر عليه منكر قالوا في الجانى: إنه من أهل الحقيقة فلا اعتراض عليه، وفى المنكر أنه من أهل الشريعة فلا التفات إليه، كأنهم يعتقدون أن الله تعالى أنزل للناس دينين، وأنَّه يعاملهم معاملتين -حاشا لله- نعم جاء في كلام بعض الصوفية ذكر الحقيقة مع الشريعة ومرادهم يه أن في كلام الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ما يعلو أفهام العامة بما يشير إليه من دقائق الحكم والمعارف التى لا يعرفها إلا الراسخون في العلم، فحسب العامة من هذا الوقوف عند ظاهره، ومن آتاه الله بسطة في العلم ففهم منه شيئًا أعلى ممَّا تصل إليه أفهام العامة، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ممن يجد ويجتهد للتزيد من العلم بالله وسننه في خلقه. فهذا ما يسمونه علم الحقيقة لا سواه وليس فيه شيء يخالف الشريعة أو ينافيها، ومن رزقه الله نصيبًا من هذا العلم كان أشد الناس خشية، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (١).

ولقد ساءت طريقة مدعى التصوف في هذا الزمان وصارت رسومهم بالأهواء والمعاصى أشبه، انظر إلى الاجتماعات التى يسمونها (الوالد)


(١) [سورة فاطر: الآية ٢٨].

<<  <   >  >>