للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

جدة وزعموا أن الكعبة نزنت مرة أخرى إلى الأرض بعد ارتفاعها بسبب الطوفان، وأنها حليت بالحجر الأسود، وأن هذا الحجر كان ياقوتة بيضاء، وقيل: زمردة من يواقيت الجنة

أو زمردها، وأنها كانت مودعة في باطن جبل أبى قبيس فتمخص الجبل فولدها، وإن الحجر إنما أسود لملامسة النساء الحيض له، وقيل: لاستلام المذنبين إياه، وكل هذه الروايات التى ينشرها بعض القصاصين خرافات إسرائيلية بثها زنادقة اليهود في المسلمين ليشوهوا عليهم دينهم وينفروا أهل الكتاب منه.

والحق في هذا المقام ما دل عليه قوله -جَلَّ ثَنَاؤُه-: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} (١) فإنه ظاهر في أنهما هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنية. وقد جزم الحافظ ابن كثير بأن إبراهيم عليه السلام أول من بناه ولم يجئ خبر عن معصوم أنه كان مبنيًّا قبل الخليل، وأن شرف هذا البيت إنما هو بتسمية الله إياه بيته، وإضافته إليه في قوله -جَلَّ ثنَاؤُه-: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (٢) عهد إليه بالشئ: وصاه به، والمراد أن الله تعالى كلفهما أن يطهرا ذلك المكان الذى نسبه إليه وسماه بيته من جميع الرجس الحسى والمعنوى كالشرك وأصنامه، واللغو والرفث والتنازع لأنَّه جعله معبدًا يعبد فيه العبادة الصحيحة.

وليس شرفه بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار، ولا بكونه من السماء، بل شرفه معنوي كما أن شرف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على غيرهم من البشر ليس لمزية في أجسامهم ولا في ملابسهم، وإنما هو لاصطفاء الله تعالى إياهم، وتخصيصهم بالنبوة التى هى أمر معنوى، وقد كالق أهل الدنيا أحسن زينة وأكثر نعمة منهم.

وقد أفصح عن هذا المعنى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله عند استلام الحجر الأسود: "أما والله إنى أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنى رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبلك ما قبلتك ثم دنا فقبله" متفق عليه، وما روى من مراجعة على لعمر في ذلك غير صحيح فلا يعول عليه. والحديث يرشدنا إلى أن الحجر الأسود لا مزية له في ذاته فهو كسائر الحجارة، وإنما استلامه أمر تعبدى كاستقبال


(١) [سورة البقرة: الآية ١٢٧].
(٢) [سورة البقرة: الآية ١٢٥].

<<  <   >  >>