للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذا نعيم الدنيا، وهو الجاهل الغافل، حتى يكاد يرى ذلك ظلمًا، وهذا المعنى اعتراض على الله في قسمة الحظوظ بين الخلق، ومن ذلك قول ابن الراوندي الملحد:

كم عاقل عاقل ضاقت معيشته … وجاهل جاهل تلقاه مرزوقًا

هذا الذى ترك الأوهام حائرة … وصير العالم النحرير زنديقا

إلى غير ذلك من أمثاله، وكذلك المرأة الفقيرة الحسناء ترى الحلى والجواهر على الدميمة فتتعجب وتقول: يحرم مثل هذا الجمال من الحلى والجواهر، ويخصص بذلك قبيح الصورة، ومن هنا ربما يعتقد العاقل الفقير أن الجاهل الغنى أحسن حالًا منه، كما أن الجاهل الغنى كثيرًا ما يعتقد أنه أحسن حالًا من الفقير العاقل.

هذه اعتقادات ثلاثة منشؤها الجهل والغرور، وكثيرًا ما يقع التبدع به خصوصًا بين طلاب العلم في هذه الأزمان المفتونة التى لم تقصد العلوم فيها لثمراتها التى وضعت لأجلها ولا لنوال رضوان الله -عَزَّ وَجَلَّ- من أجل هذه الثمرات، بل طلبًا لحطام الدنيا وعرضها الزائل، فلا جرم أن من تحصل منهم على العلم، وله ينل بغيته يرى نفسه خاسرًا قد ضاعت عليه حياته، ويرى الجاهل الغنى خيرًا منه، ولو قصد العلم لأنَّه كمال ذاتى له يتكمل به عقله الذى امتاز به على كل مخلوق

سواه لَعَلِم أنه ربح ربحًا كاملًا؛ لأن قدر العلم عظيم عند الله، عظيم عند الناس، وهو أعظم مر قدر المال بك لا قدر للمال أصلًا إلا إذا كان معه علم.

(قال الإمام الغزالى): والعجب أن العاقل الفقير ربما يرى الجاهل الغنى أحسن حالًا منه، ولو قيل له: هل تؤثر جهله وغناه عوضًا عن عقلك وفقرك لامتنع عنه. والمرأة الجميلة لو خيرت بين الجمال، وبين القبح مع الغنى لآثرت الجمال، وذلك يدل على أن نعمة الله عليهما أكبر، ومن هنا كانت نعم الله على المقربين من خلقه غالبًا بأمور يتكلمون يها في أنفسهم كالعلم وكمال العقل والشجاعة والنجدة والمروءة وحسن الخُلُق والخَلْق.

أما التبدع بالاعتقاد الأول فخطأ من وجهين:

(الأول): أن المنعم بالجميع هو اللَّه تبارك وتعالى، لا يسأل عما يفعل، فإن فعله تعالى في غاية الحكمة والسداد ومن كان كذلك فلا يتوجه عليه سؤال أصلًا،

<<  <   >  >>