للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقول الفقير العاقل: يا رب لم حرمتنى الدنيا وأعطيتها الجهال كقول من أعطاه الملك فرسًا ولم يعطه غلامًا فيقول: أيها الملك لم لا تعطنى غلامًا وأنا صاحب فرس؟ فيقول الملك: كنت لا تتعجب من هذا لو لم أعطك الفرس، فهب أنى ما أعطيتك فرسًا، أصارت نعمتى إليك وسيلة وحجة تطلب بها نعمة أخرى، فمنشأ ذلك الجهل بأن العبد وأعماله وأوصافه وجميع ما بيده كل ذلك من عند الله تعالى نعمة ابتدأه بها قبل الاستحقاق.

(الوجه الثانى): أنه قضت حكمة الله وتدبيره نظام ملكه أن يكون فيهم الفقير والغنى وضعيف العقل وكامله والعالم والجاهل، فإن الإنسان مدنى بالطبع يحتاج إلى الزارع والصائغ والمحترف يالحرف الدنيئة كالحداد والقصار والخياط والحجام إلى الشيال والزبال، والحرف الرفيعة كالصائغ والناسج والتاجر، فالله خلق الخلق وكل ميسر لما خلق له، فحبب الفقير ضعيف العقل في الحرف الدنيئة يعشقها ويدعوه إلى الانقطاع لها حتى لا يرى سواها. والفقير الكامل العقل يحبب إليه الحرف الشريفة فيعشقها كذلك، وقوام الفريقين الأغنياء ينتفعان بغناهم وينفعونهم بحرفهم. وأما الجاهل الغنى فهو تكملة الأقسام وفتنة العالمين، فلولا العشق لفسد العالم، ولو بسط الله الرزق لعباده وكانوا جميعًا أغنياء عقلاء لبغوا في الأرض

{ … وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (١).

فمن الغرور أن العاقل الفقير يرى نفسه غير مرزوق، بل هو أكثر رزقًا من الجاهل الغني كما قال الإمام علي -رضي الله عنه- حين قيل له: ما بال العقلاء فقراء؟ فقال: "إن عقل الرجل محسوب عليه" ومن هنا قيل: ذكاء المرء محسوب عليه، ولا يدرى هذا المغرور أنه لو جمع له بين العقل والمال جميعًا لكان ذلك بالظلم أشبه في ظاهر الحال، إذ يقول الجاهل الفقير: يا رب لم جمعت له بين العقل والغنى وحرمتنى منهما فهلا جمعتهما لي أو رزقتنى أحدهما.

والذى تسكن به نفس العيد ويسلم به من خطر الزلل في هذا المقام أن يوقن بأن الله جلت قدرته فاوت بين الناس في الحظوظ ومنافع الحياة كما قال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} (٢) بمقتضى


(١) [سورة الفرقان: الآية ٢٠].
(٢) [سورة النحل: الآية ٧١].

<<  <   >  >>