فلا يقال: إنهم علموا الغيب، وإنما يقال: إنهم أطلعوا (بالبناء للمفعول) على الغيب أو نحو ذلك ممَّا يفيد الواسطة في ثبوت العلم له ويؤيد ما ذكر أنه لم يجئ في القرآن الكريم نسبة علم الغيب إلى غيره تعالى أصلًا، وجاء الإظهار على الغيب لمن ارتضى سبحانه من رسول.
ثم إن علم غير الغيب من المحسوسات والمعقولات، وإن كان لا يثبت يشئ من الممكنات بلا واسطة في الثبوت إلا أنه في نسبته لشئ منها لم يعتبر إلا اتصافه به غير مقيد بنفى تلك الواسطة، لما أنه لم يرد حصر ذلك العلم به -عَزَّ وَجَلَّ- ونفيه عما سواه -جَلَّ وَعَلَا- بل صرح في مواضع أكثر من أن تحصى بنسبته إلى غيره سبحانه. ولو رود منه ما ورد في علم الغيب لا التزم فيه ما التزم فيه، فليس علم العقول بالحوادث المستقبلة على ما يزعم الفلاسفة من علم الغيب، بل هو (لو سلم) علم حصل لهم من الفياض المطلق -جَلَّ شَأنهُ- بطريق من الطرف التى تقتضيها الحكمة فلا يقال: إنهم عالمون بالغيب، كذا يقال في بعض المرتاضين من المسلمين الصوفية والكفرة (الجوكية) فإن كل ما يحصل لهم من ذلك إنما هو بطريق الفيض ومراتبه لا تحصى، والتأهل له قد يكون فطريًّا وقد يكون كسبيًّا، وطرق اكتسابه متشعبة لا تكاد تستقصى، وإفاضة ذلك على كفرة المرتاضين وإن أشبهت إفاضته
على المؤمنين المتقين إلا أن بين الأمرين فرقًا عظيمًا عند المحققين، وقد ذكر بعض المتصوفة أنه ما من حق إلا وقد جعل له باطل يشبهه؛ لأن الدار دار فتنة وأكثر ما فيها محنة، ويلحق يعلم المرتاضين من الجوكية علم بعض المتصوفة المنسوبين إلى الإسلام المهملين أكثر واجباته المنهمكين في ارتكاب المحظورات فلا ينبغى اعتقاد أن ذلك كرامة، بل هو نقمة مفضية إلى حسرة وندامة.
وأما علم النجوم بالحوادث الكونية حسبما يزعمه فليس من هذا القبيل؛ لأن تلك الحوادث التى يخبر بها ليست من الغيب بالمعنى الذى ذكرناه، إذ هى وإن كانت غائبة عنا إلا أنها علي زعمه ممَّا نصب الها قرينة من الأوضاع الفلكية والنسب النجومية وعلمه بدلالة القرائن التى يزعمها ناشئ من التجربة وما تقتضيه طبائع النجوم والبروج التي دل عليها بزعمه اختلاف الآثار في عالم الكون والفساد، فلا أرى العلم بها إلا كعلم