وإتقان الأعمال في سياستهم المنزلية والمدنية وفى حروبهم وقضائهم بين الناس ما هو أعلى بكثير مما يندهش له هؤلاء الجهلاء عند ظهوره على يد أوربا زاعمين أن الإسلام وأهله خلو من هذه المحاسن، وقد جر ذلك شرًّا مستطيرًا على كثير من البسطاء وضعفاء الإيمان، فاعتقدوا إصابتهم في كل ما ينسب إليهم ولو كان مصادمًا لحدود الدين، وربما ذهبوا إلى أنه يجب أن تكون رسوم الشرع الشريف طبق ما عليه علماء أوربا، وإلا كان دين الهمجية والوحشية نعوذ باللّه من الضلال. فعلى المسلم العاقل أن يقف على محاسن دينه رآثار السلف الصالح ليعلم أن المحاسن التى في دينه ولسلفه كثيرة جمة المنافع جديرة بأن ينشدها في محاوراته وينشرها في سائر الطبقات.
(الوجه الرابع): تنقسم إلى حقيقية وإضافية، فالحقيقية ما كان الابتداع فيها من جميع وجوهها، فهى بدعة محضة ليست فيها جهة تندمج بها في السنة، وهى التى لم يدل عليها دليل شرعى من كتاب أو سنة أو إجماع أو استدلال، فالاستدلال دليل ليس بنص من كتاب أو سنة ولا إجماع ولا قياس، ذلك أن علماء الأمة أجمعوا على أن ثم دليلًا شرعيًّا غير ما ذكر، اختلفوا في تشخيصه فقال قوم: هو الاستصحاب، وهم الشافعية وقوم الاستحسان، وهم الحنفية، وقوم المصالح المرسلة وهم المالكية، وبالجملة هو نوع خاص من الدليل معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل، ولذا سميت بدعة حقيقية؛ لأنها شيء مخترع على غير مثال سابق، فهى بعيدة عن الشرع خارجة عنه من كل وجه إن كان المبتدع قد يتمسك فيها بما يزعمه شبهة وليس بها. ومن أمثلتها:
١ - التقرب إلى اللّه تعالى بالرهبانية وترك الزواج مع وجود الداعية إليه وفقد المانع الشرعى كرهبانية النصارى المذكورة في قول اللّه تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ}(١) والرهبانية هى المبالغة في العبادة
بالرياضة، والانقطاع عن الناس. وسبب ابتداعهم إياها أن الجبارين ظهروا على المؤمنين بعد المسيح -عليه السلام- فقاتلوهم حتى لم يبق منهم إلا القليل، فخافوا أن يفتنوهم في دينهم، فاختاروا الرهبانية في رءوس الجبال فارين بدينهم، منقطعين للعبادة.