لأن أحكامها معقولة المعنى، ولا بد فيها من التعبد إذ هى مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها (١) فالقسمان مشتركان في معنى التعبد، والابتداع إنما يتصور دخوله في القسم الثانى من جهة التعبد فيه لا من جهة كونه عادة، قمثل المكوس إذا نظر إليها من جهة كونها عادة أي أنها ظلم كسائر المظالم مثل الغصب والسرقة وقطع الطريق فلا يدخلها الابتداع، إذ هى من هذه الجهة مما يتناولها نهى الشارع عن أكل أموال الناس بالباطل، وليس فيها جهة تشريع، وإنما يتصور دخول الابتداع في المكوس إذا لوحظت من جهة أنها وضعت على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم عليهم دائمًا أو في أوقات محدودة على كيفيات مضروبة بحيث تضاهى المشروع الدائم الذى يحمل عليه العامة ويؤخذون به ويوجه على الممتنع منه العقوبة، كما في أخذه زكاة المواشى والحرث وما أشبه ذلك، فإنها من هذه الجهة تكون شرعًا مستدركًا إذ هى حينئذ تشريع زائد وإلزام للمكلفين يضاهى إلزامهم الزكاة المفروضة، والديات المضروبة والغرامات المحكوم بها في الأموال.
ففى المكوس على هذا الفرض جهتان: جهة كونها محرمة كسائر أنواع الظلم، وجهة كونها اختراعًا لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف، فاجتمع فيها نهيان: نهى عن المعصية، ونهى عن البدعة، وليس ذلك موجودًا في البدع العبادية، وإنما يوجد فيها النهى من جهة كونها تشريعًا موضوعًا على الناس أمر وجوب أو ندب إذ ليس فيها جهة أخرى تكون بها معصية، بل نفس التشريع هو نفس الممنوع، فالعاديات من حيث هى عاديات لا بدعة فيها، رمن حيث يتعبد بها أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة.
وكذا تقديم الجهال على العلماء، وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح لها يطريق التوارث هو من هذا القبيل، فإنَّ جَعْلَ الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتيًا في الدين أو حاكمًا في الدماء
(١) فمثلًا البيع عادى مباح الأصل لكن الشارع قيده بأمور تعبدية لا خيرة للعبد فيها، من أهلية المتعاقدين للتصرف، وكون المبيع طاهرًا، منتفعًا به، مملوكًا للبائع، مقدور التسليم، وهى أمور مطلوبة طلبًا جازمًا. والنكاح عادى مباح الأصل قيده الشارع بأمور تعبدية لا خيرة للمكلف فيها، من كون المحل قابلًا للنكاح أي محلية الأنثى له، وكون الولى أهلًا للتصرف، وحضور شاهدى عدل، وهى قيود مطوبة طلبًا جازمًا، وهكذا باقى الأمثلة.