بتقليد العامة علماء السوء، فإنهم لما قلدوا وأحبوا الرياسة ومباراة علماء الحق ابتدعوا ما حسن لدى العامة، وطعنوا في متبعي السنة، حتى تبدل الدين بأصله.
فالتقليد رأس مال الجاهل، وسببه جهل المرء بقدره، حتى اتبع رجلا مثله بلا حجة، ثم الذي يليه الإلهام، فصاحبه اتبع قلبه وقلده بلا حجَّة، بناء على أنه خلق على نور الفطرة، وجهلًا بهوى نفسه، حتى ادعى رتبة الأنبياء لنفسه، واتخذ إلهه هواه كما اتخذ المقلد آلهة خشبًا، فهذا رفع قدره جهلا، والأول وضع قدره جهلًا فهلكا، وما هلك امرؤ عرف قدره، فمن رام الاحتراز عنهما فليبن أمره على الكتاب والخبر، ثم الاستدلال والنظر، وما التوفيق إلا بالله.
وكان الناس في الصدر الأول -أعني الصحابة والتابعين والصالحين رضوان الله عليهم أجمعين- يبنون أمرهم على الحجة، فكانوا يأخذون بالكتاب، ثم بالسنة، ثم بأقوال مَنْ بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يصح بالحجة، فكان الرجل يأخذ بقول عمر رضي الله عنه في مسألة، ثم يخالفه بقول علي رضي الله عنه في مسألة أخرى، وقد ظهر من أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله أنهم وافقوه مرة، وخالفوه أخرى، على حسب ما تتضح لهم الحجة، ولم يكن المذهب في الشريعة عمريا ولا علويًا، بل النسبة كانت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كانوا قرونًا أثنى عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخير، فكانوا يرون الحجة لا علماءهم ولا نفوسهم.
فلما ذهب التقوى عن عامة القرن الرابع، وكسلوا عن طلب الحجج جعلوا علماءهم حجة، واتبعوهم فصار بعضهم حنفيًا، وبعضهم مالكيًا، وبعضهم شافعيًا، ينصرون الحجة بالرجال، ويعتقدون الصحة بالميلاد على ذلك المذهب، ثم كل قرن بعدهم اتبع عالمه كيفما أصابه، بلا تمييز، حتى تبدلت السنن بالبدع، فضل الحق بين الهوى، ونشأ قوم من الحبية، فزعموا أنهم أحباء الله عجبًا بأنفسهم، وأن الله يتجلى لقلوبهم ويحدثهم، فرأوا لذلك