بذل العلماء الأعلام جهداً كبيراً في تصحيح المذاهب التي ينتسبون إليها وتنقيحها، وهذا ليس قصراً على مذاهب الأئمة الذين لم ينقل عن أئمتهم تصحيح مذاهبهم، فإن علماء المذهب الشافعي بذلوا جهوداً هائلة في تنقيح المذهب وتصحيحه، وجهود بقية العلماء في المذاهب الأخرى أعظم وأكثر.
والسرّ في ذلك أن العلماء في تحقيقهم المذهب وتصحيحه لا يقفون عند حدّ معرفة قول إمام المذهب، فإن معرفة الصحيح من مذهب الإمام واحد من مهمات متعددة لا بدَّ منها في تحقيق المذهب، إن كل مذهب من المذاهب يزخر بالعلماء المجتهدين الذين ينظرون في المسائل وأدلتها، وقد أشرنا من قبل كيف أن أصحاب الأئمة كانوا يفتون في المسائل بنظر مستقل، ولا يتقيدون بما بلغهم من فتاوى إمام مذهبهم، وقد كانت فتاويهم تذكر في كتب المذهب مع فتاوى إمامهم جنباً إلى جنب، فما ذكر الحنفية أقوال أبي حنيفة إلا وذكروا معها فتاوى أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن وغيرهم، وما ذكر الشافعية فتاوى الشافعي إلا وذكروا معها فتاوى البويطي والربيع المرادي والمزني، وهكذا الحال عند المالكية والحنابلة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل نبغ من بعد ذلك الرعيل علماء اجتهدوا في تصحيح المذهب فيما فيه قولان أو روايتان، فكان لكل عالم اختياره وترجيحه، ثم إن العلماء اجتهدوا في كل عصر في المسائل المستجدة التي لم يعرف فيه قول عن سابقي علماء المذهب، وقد تأهل للفتوى في كل عصر عدد كبير من العلماء في كل مذهب، كانوا على علم بمقاصد التشريع، كما كانوا على دراية بطرائق الاستدلال.
وحتى عندما جمد كثير من فقهاء المذاهب في العصور المتأخرة على أقوال سابقي علمائهم، بقي فيهم من يرجح قولا على قول، ورأياً على رأي، وبقي فيهم من ينبه على أخطاء من أخطأ في ذكر المعتمد للفتوى، وكانت