الزاهدين في الحديث، الفارين عن علوم التحقيق، المقصرين عن التوسع في المعرفة؛ فحسدوه، ووضعوا فيه القول القبيح عند الأمير، حتى ألزموه البدعة، وشنؤوه إلى العامة. وتخطى كثير منهم برميه إلى الإلحاد والزندقة، وتشاهدوا عليه تغليظ الشهادة، داعين إلى سفك دمه؛ وخاطبوا الأمير محمدا في شأنه، يعرفونه بأمره، ويكثرون عليه بكل ما يرجون به الوصول إلى سفك دمه، ويسألونه تعجيل الحكم فيه. فاشتد خوف بقي بن مخلد جدا، واستتر خوفا على دمه، وعمل على الفرار عن الأندلس إن أمكنه ذلك. فأرشده الله إلى التعلق بحبل هاشم بن عبد العزيز، وسؤاله الأخذ بيده؛ وكتب إلى الأمير محمد، ينشده الله في دمه، ويسأله التثبت في أمره، والجمع بينه وبين خصومه، وسماع حجته، فيأتي في ذلك بما يوفقه الله له. فألقى الله في نفس هاشم الإصغاء إلى شكواه، والاعتناء بأمره؛ فشمر له عن ساعده، وأوصل كتابه إلى الأمير محمد يشرح حاله؛ فعطف عليه، وإنهم الساعين به إليه؛ فأمر بتأمين بقي بن مخلد، وإحضاره مع الطالبين له؛ فتناظروا بين يديه؛ فأدلى بقي بحجته، وظهر على خصومه؛ واستبان الأمير محمد حسدهم إياه لتقصيرهم عن مداه. فدفعهم عنه، وتقدم إليه يطأطأه قدمه، ونشر علمه. وأمر بإيصاله إليه في زمرة من الفقهاء، والرفع من منزلته؛ فاعتلى ذروة العلم، ولم يزل عظيم القدر عند الناس وعند الأمير محمد إلى أن مات - رحمه الله! وفي صدر دولته، توفي عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب، وذلك في رمضان سنة ٢٣٩. وهو عبد الملك بن سليمان بن مروان بن جيهلة بن عباس ابن مرداس السُّلميُّ، يُكنى أبا هارون؛ أوله من كورة إلبيرة، ونقله الأمير محمد إلى قرطبة، بل نقله أبوه عبد الرحمن بن الحكم. وكان محمد بن عمر بن لبابة يقول: عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى، وفقيهها عيسى بن دينار. قال ابن وضاح وغيره: لم يقدم الأندلس أحد أفقه