للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان المنصور آية من آيات فاطرة دهاء ومكرا وسياسة: عدا بالمصاحفة على الصقالبة حتى قتلهم وأذلهم؛ ثم عدا بغالب الناصري على المصاحفة حتى قتلهم وأبادهم؛ ثم عدا بجعفر بن الأندلسي على غالب حتى قتله؛ ثم عدا بنفسه على جعفر وقتله؛ ثن أنفرد بنفسه وصار ينادي صروف الدهر: (هل من مبارز؟) فلما لم يجده، حمل الدهر على حكمه؛ فانقاد له وساعده؛ فاستقام أمره، منفردا بمملكة لا سلف له فيها. ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قط في حرب شهدها، وما توجهت قط عليه هزيمة، وما انصرف عن موطن إلا قاهرا غالبا، على كثرة ما زاول من الحروب، ومارس من الأعداء، وواجه من الأمم. وإنها لخاصة ما أحسب شركه فيها أحد من الملوك الإسلامية. ومن أعظم ما أعين به، مع قوة سعده، وتمكن جده، سعة جوده وكثرة بذله؛ فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان؛ وأول ما اتكأ على أرائك الملك وارتفق، وانتشر عليه لواء السعد وخفق؛ حط صاحبه المصحفي، وأثار له كامن حقده الخفي، حتى أصاره للهموم وخفق، وفي غايات السجون حبيسا؛ فكتب إليه يستعطفه (بسيط) :

هَبنِي أسأتُ فأينً العَفوُ والكَرَمُ ... إذ قادَني نَحوَكَ الإذعانُ والنَّدَمُ

يا خَيرَ مَن مُدَّت الأيدِي إليه أمَا ... تَرقِي لشيخٍ نَعَاهُ عِندَكَ القَلَمُ

بالغتَ في السَّخطِ فأصفح صَفحَ مُقتَدِرٍ ... إنَّ المُلوكَ إذا مَا استُرحمُوا رَحِموا

فما زاده ذلك إلا حنقا وحقدا، ولا أفادته الأبيات إلا تضرما ووقدا. فراجعه بما أيأسه، وأراه مرمسه، وأطبق عليه محبسه، وضيق تروحه من المحنة وتنفسه) :

الآنَ يَا جَاهِلاً زلَّت بِك القَدَمُ ... تَبغِي التَّكَرُّمَ لَمَّا فَاتَكَ الكَرَمُ

أغرَيتَ بي مَلِكاً لَولا تَشَبُّتُهُ ... مَا جَارَ عِندَه نُطقٌ ولا كَلِمُ

فايأس مِنَ العَيش إذ قَد صِرتَ في طَبَقٍ ... إنَّ المُلُوك إذَا مَا اسُتنقموا نَقَموا

نَفسِي إذا سَخِطَت لَيست بِراضِيةٍ ... وَلو تَشَفَّعَ فِيكَ العُربُ والعَجَمُ

<<  <  ج: ص:  >  >>