والقاضي أبو بكر الباقلاني تخطى عن هذا القدر قليلا، فقال: الدليل قد قام على أن القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد، لكن ليست تقتصر صفات الفعل أو وجوهه واعتباراته على جهة الحدوث فقط، بل ها هنا وجوه أخرهن وراء الحدوث من كون الجوهر جوهرا متحيزاً، قابلاً للعرض، ومن كون العرض عرضا، ولونا، وسوادا، وغير ذلك ... قال: فجهة كون الفاعل حاصلا بالقدرة الحادثة أو تحتها نسبة خاصة، ويسمى ذلك كسبا، وذلك هو أثر القدرة الحادثة ... فأثبت القاضي تأثيراً للقدرة الحادثة وأثرها ... .
ثم إن إمام الحرمين أبو المعالي الجويني تخطى عن هذا البيان قليلا، قال: أما نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباها العقل والحس، وأما إثبات قدرة لا أثر لها يوجه فهي كنفي القدرة أصلاً، وأما إثبات في حالة لا يفعل فهو كنفي التأثير، خصوصا والأحوال على أصلهم لا توصف بالوجود والعدم، فلا بد إذن من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق، فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار يحس من نفسه أيضاً عدم الاستقلال ... " (١) .
فهذا النص - عن الشهرستاني - يوضح كيف أن قول الأشاعرة في أفعال العباد لم يثبت على قدم الإستقرار، ولم يكن مقنعا لكبار علمائهم الذين بحثوا هذه المسألة، ويلاحظ في عرض هذا التطور لمذهب الأشاعرة أنهم يسرون نحو القول الحق الذي يقول به أهل السنة والجماعة - كما سيأتي - مع العلم بأن الذي استقر عليه مذهب الأشاعرة موافق لما قالوه أولا، والذي ذكر الشهرستاني أنه قول أبي الحسن الأشعري، وأنه لا تأثير للقدرة الحادثة.
ونعرض لأهم أقوال الأشاعرة:
١- قول جمهور الأشاعرة ومتأخريهم، وهؤلاء يقولون إن الله خالق أفعال العباد فيثبتون مرتبتي المشيئة والخلق، ولكن يقولون: "إن أفعال العباد
(١) الملل والنحل للشهرستاني (١/٩٦-٩٩) ، وانظر: نهاية الأقدام له (ص:٧٢-٧٨) ، وانظر: مذهب الإسلاميين: عبد الرحمن بدوي (١/٥٥٧-٥٦١) .