أن ذكر في التمسك بالسمعيات أن المطالب ثلاثة أقسام: منها ما يستحيل حصول العلم بها بواسطة السمع، ومنها ما يستحيل العلم بها إلا بالسمع، ومنها ما يصح العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى "،وبعد أن شرح الرازي ذلك قال: " إذا عرفت ذلك فنقول: أما أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول فهو ظاهر..
وأما القسم الثالث ففي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال: وذلك لأننا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي، فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي، لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر النقل وبين مقتضى الدليل العقلي، فإما نكذب العقل، وإما نؤول النقل، فإن كذبنا العقل، مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل، فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا العقل، فحينئذٍ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه، فإذن لا يكون النقل مقطوع الصحة، وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلاً، فتعين تأويل النقل " (١) .
- وهذا هو مضمون القانون الذي سبق نقله عن الرازي في أساس التقديس، والكلام الخطير قول الرازي بعد هذا مباشرة: " فإذن الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوحود مدلوله إلا بشرط أن لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره، فحينئذٍ لا يكون الدليل النقلي مفيداً للمطلوب إلا إذا بينا أنه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره، ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك الأمر إلا من وجهين: إما أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي - وحينئذٍ يصير الاستدلال بالنقل فضلاً غير محتاج إليه - وإما أن نزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل، وذلك ضعيف لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه أن لا يكون هناك معارض أصلاً، اللهم إلا أن نقول: إنه لا دليل على هذه المعارضات فوجب نفيه، ولكنا زيفنا هذه الطريقة، أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص، ولا المقدمة الفلانية الأخرى، وحينئذٍ يحتاج إلى إقامة الدلالة على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية
(١) نهاية العقول - مخطوط - (١٤ -أ-ب) ، ونقله شيخ الإسلام في درء التعارض (٥/٣٣٠-٣٣١) ..