فأشار إلى أن الأمر يقتضي حصر المأمور على الفعل، واقتضاءه منه اقتضاء جزما، ولكن إذا ثبت هذا من جهة اللسان ثبت بعده الوعيد.
وأشار أبو المعالي إلى أن طريقة عبد الجبار تجري على أسلوب طريقته وإن [كان] القصد مختلفا، والمرمى متقاربا، وذلك أن عبد الجبار استفاد من اللفظ إرادة الامتثال لا غير، وتضمن الامتثال كون الممتثل مطيعا، وبمقارنة الوعيد يثبت الوجوب.
والذي أعتقده في هذه المسألة أن الأمر فيها ليس على ما قاله أئمتنا من التردد المتساوي ولا (ص ٧٦) على ما يشير إليه الجمهور في التصميم على الوجوب، والقطع على أنها موضوعة له، حتى يصير الخروج عن الوجوب كالخروج عن الأصل، ولكنها عندي تنزل في الدلالة على الوجوب منزلة الظواهر التي هي مترددة بين معنيين، ولكنها في أحدها أظهر، وأنا أنزل متى نظرت في الفقهيات مستدلا عليها بما يلوح من معارضة الأوامر عن الوجوب، على حسب ما يخرج النظار عن الظواهر إذا قابلها نزلة عنها.
والرأي في هذا خلاف رأي من يقطع على أن الأصل فيها الوجوب، وهي في إخراجها عنه خارجة عن الأصل، لأن هؤلاء يشتدون في التمسك بها، ولا ينزلون عنها نزول من اعتقد كونها كالظواهر، وذلك أني أعلم يقينا، أن المستمر من أحوال أهل العصر، ومن قبلهم على مقتضى نقل الآخر عن الأول، أن الأوامر إذا صدرت، والقائل إذا قال: افعل، لمن دونه، ولا يخطر ببال السامعين الالتفات إلى كونه مهددا، أو غير ذلك من الأقسام التي عددناها إلا عند استشعار أحوال تلوح بما استشعروه، وهذا مما نعلمه قطعا، ثم كذلك نعلم أنهم لا يلتفتون إلا الإباحة إلا عند عوارض، قد يستشعر منها قصد الإباحة وإمكان إرادتها.
وأما المضيق في التردد بين الواجب والندب وهما المذهبان المشهوران، وهاهنا أقول: إن استعمالها في الوجوب أكثر وأشهر، ولهذا كانت عندي ظاهرا فيه، ولو لم يؤيد ما قلناه، إلا أن المطلع على ما نقل عن الصحابة صث، وأئمة من بعدهم من أهل الأعصار، يستلوح من المقنول عنهم من مناظرة، أو فتوى، أو بنية على استدلال، ابتدارهم إلى التمسك بظواهر الأوامر المجردة، وقد نقل عن الصحابة رضي الله عنهم الاستدلال بمجرد أوامر، ونواه يكثر تعدادها، مما نقل عنهم البدار إلى امتثال ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، من غير توقف، ولا استفسار، وهذا إن لم يفد القطع بما قاله أصحاب الوجوب، فاقل مراتبة أن يفيد الظن، وكون هذا كالظاهر في إفادة الوجوب.