للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهذا الاستدلال عندهم يضطرهم إلى إثبات عقل آخر يسمونه العقل الفعال، وفيه صور المعقولات كلها، وهو في نفسه قد كان عقلا بالفعل، لم يكن قط عقلا هيولانيا، لأنه لو كان كذلك لافتقر إلى آخر ينقله من الهيولي إلى الفعل، ويتسلسل القول، فوجب عندهم إثبات هذا العقل على وجود كامل تام، مستوف لصور المعقولات كلها، قد كان، وعنه تستمد عقولنا المعارف والعلوم النظرية كلها، فإذا استمدت عقولنا منه هذه المعقولات، فما دام تطالعها عقولنا وتذكرها فذاك غاية الكمال، وإن لها عنها فتلك حالة لا تخرجه عن كونه عقلا بالفعل، لأن المعقولات مخزونة فيه متى شاء طالعها. وتفاوت الناس في العلوم لتفاوت هذا العقل الهيولاني في القوة والضعف، فتهيؤ الجنس إلى قبول ما يقبله من الوجود يختلف عيانا، فبحسب هذا يقع التفاوت في العلوم والاختلاف في الذكاء، وصحة الحدس، مع الاختلاف أيضا في استعمال هذا العقل لتلك القوى التي يستخدمها مع قبوله على تدبير النفس خاصة وإصلاح الجسم والطباع، فيضعف عن تحصيل العلوم، وبالعكس فإنه إذا أقبل على تحصيل العلوم وانتصبت تلك القوة العقلية إلى استقبال ما يفيض عليها من هذا العقل الفعال، ضعف نظرها في تدبير البدن والطباع.

ويضربون مثالا من المحسوسات يحيلون به صحة ما قالوه، حتى يستميلوا بذلك أنفس العوالم، لما قدمنا مكررا من كون التخيلات الحسية تسرع النفوس لقبولها، ويألفها إحساسها، فيقولون: هذه الأجسام المتلونة يراها الإنسان بعينه، فالعين هي الرائية، والألوان هي المرئية، ولكن لولا شعاع الشمس ولمعانه على الألوان لما أدركه البصر، ولهذا لم يدركه في الليل، فالعين أبدا متمكنة من أن ترى، والمرئي مهيأ لوقع البصر عليه، ولكن إذا شرق عليه نور الشمس صار البصر رائيا له، فالبصر إنما انفعل عن شعاع الشمس، ولكن شعاعها إنما ضرب على الأجسام متلونة، فصار البصر مدركا لها، وحصلت العين رائية.

وهذا العقل الفعال كالشمس، وصور المعقولات كالأجسام المتلونة، وهذا العقل الذي حصل له حال الهيولي، وحال التمكن على ما شرحناه، متمكن من أن يحصل المعقولات وتنطبع فيه (ص ١٠٨) صورها وحقائقها، ولكن يشترط أن يشرق نور العقل الفعال على المعقولات فيبصرها حينئذ هذا العقل الذي وصفناه فينا، فإذا أبصرها كمل وصار عقلا بالفعل، وصار عقلا مستفادا.

<<  <   >  >>