وقد ذكرنا أن هذا الاستمداد عن العقل الفعال على هذه الصفة إنما يكون بتهيئ يصح معه قبول هذا الفيض، وهذا التهيؤ إنما يحصل فينا غالب عند تحريك العقل الحاصل لنا القوة المفكرة على ما فرضناه.
وإذا تصورت هذه التخاليط والتحكمات في تصور أمر به يدرك تصور المتصورات انكشف لك ما رمز إليه أبو المعالي وهول عليك وروعك بقوله:"لا مطمع في مفاتحة هذا الفصل فضلا عن استقصائه"، فها نحن قد فتحنا لك الباب الذي أغلقه، حتى نظرت ما وراءه فلم تبصر شيئا، ونحن نملي نص كلامه في هذا الفصل وننبهك على غرضه على ما قدمناه من مذاهب القوم حتى تعرف مخارجه منها.
قال أبو المعالي:"وليعرف طالب هذا الشأن أن معظم ما يحسبه من لم يعظم حظه في الحقائق علما فهو فكر، وهو المعنى بكلام النفس، ومن دقيق ما يتعلق بمدارك العقول أن فكر النفس متعلقة المعلومات، أو المعتقدات، ولا تنطق النفس بالعلم الحق، وهذا الآن يتعلق بالقول الفلسفي، ولا مطمع في مفاتحته، فضلا عن استقصائه، ومهما ظن ذو الفكر أنه ناطق بالعلم، فهو متخيل العلم معلوما، ومنطوقا به، وهذا هو الذي اختلج في عقول المتكلمين، وطيش أحلامهم، حتى اضطربوا في أن العلم بالشيء هل هو علم بأنه علم، وهذا الذي اختبطوا فيه اضطراب منهم في فكر النفس، لا في العلم نفسه، ونحن في الأحايين نرمز إلى تلويحات في هذا المجموع، ليتشوف عند نجازه إلى العلوم الإلهية، ونستحب على طلبها".
أما قوله:"إن معظم ما يحسبه من لم يعظم حظه في الحقائق علما فهو فكر، وهو المعنى بكلام النفس"، فإنه إنما أشار به إلى ما قدمناه من أن القوة المتخيلة التي تسمى مفكرة بالنسبة إلى العقل عندهم، إنما تتعلق عندهم بالمعتقدات، لأنا أخبرناك كيف يأخذ الحس المشترك صور الأجسام، وكيف ينقلها، وكيف تأخذ القوة المتخيلة معاني الأجسام، وكيف تنقلها، وهذا محسوس عندهم.
وأما العلم الحق عندهم فهو ما ذكرنا من خروج القوة الهيلوانية إلى العقل الفعلي، ومعنى خروجها حصولها علوما بعد أن كانت مهيأة للعلوم، فنفس العقل هذا المشار إليه هو