وقوله تعالى:(أن اضرب بعصاك البحر) لا يتعلق به حكم، وما تعلق به من المثل الأخرى حكم. فما تقدم (ص ١٤٤) المحذوف لا يتصور فيه حكم فيقدر المحذوف موافقا أو مخالفا، ألا ترى قوله تعالى:(فمن كان منكم مريضًا أو على سفر)، فهذه جملة لو اقتصر عليها لم تفد حكما، وإنما هي شرط علق الحكم عليها قوله: فضرب، إنما هو لفظ محذوف مقدر الوجود، وهو تتمة الشرط، فلهذا أرى الآخرين لم يتعرضوا لعده قسما آخر.
ومن الأصوليين من يجري على لسانه تسمية هذا الموافق مفهوما، ولحنا، وفحوى، ويقتصر على الخطاب في المنطوق به على تسميته دليل الخطاب.
فإذا أحطت علما بهذه المقاصد والأغراض بهذه العبارات، فاعلم أن الأصوليين اختلفوا في هذا التنبيه المستفاد من قوله تعالى:(ولا تقل لهما أف)، هل يقتصر في استفادته على مجرد اللفظ الوارد على النهي في التأفيف، أو إنما يستفاد من سياق الآية مبدئها ومختتمها المشتمل على الأمر بالبر، والتنبيه على ما تقدم من حقهما.
فمنهم من يرى أن مجرد النهي عن التأفيف لا يدل على النهي عما سواه من ضروب الأذى والتعنيف، ولولا نظام الآية، وما اشتملت عليه من أنواع المعاني المؤكدة للأمر بالا لما استفيد منها النهي عن ضرب الوالدين، فكأن هؤلاء يرون أن الأقل والأحقر لا يتضمن، فلابد [من] التنبيه على الأعلى والأكثر.
وطريقة هؤلاء تضاهي عندي ما اشتهر نقله في التصانيف عن بعض أهل الظاهر، فإنه كي عنه إنكار القول بمفهوم الخطاب على الإطلاق، كما حكي عن قوم من الأصوليين، أن المفهوم متى تطرق إليه أدنى احتمال فإنه لا يستدل به، ويرون أن الاحتمال في هذا يسقط، فسقط العمل به، بخلاف الظاهر اللفظي.
وقد قدمنا لك أن المعاني المستفادة من اللفظ مستفادة منه من جهتين: إحداهما من جهة لفظه، والأخرى من جهة معناه، فالمستفاد من جهة لفظه يسمى منه ما لا احتمال فيه نصا، وما فيه احتمال يسمى ظاهرا.
وما يستفاد من جهة إشعاره ولحنه فإنه على قسمين أيضا: ما لا احتمال فيه أصلا يستدل به، وما فيه احتمال، ولكنه ظاهر في أحد محتمليه فيه اختلاف، هل يعمل به أم لا؟ فتلخص من ذلك أن ما لا احتمال فيه يعمل به من غير خلاف سواء دل عليه الخطاب