للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما الوجه الثالث وهو سبب الخلاف فإن النافين لدليل الخطاب على الإطلاق يتمسكون في نفيه بأربع طرق، منها ما مضى في كتاب العموم وصيغ الأوامر، حيث أشرنا إلى أنهم يقولون: المعلوم إنما يثبت عقلا أو نقلا، ولا احتكام للعقليات الضروريات أو النظريات على المسميات، والنقل عن اللغة أو الشرع آحاد وتواتر، فالآحاد لا يعول عليها في مسائل القطع، والتواتر مفقود، إذ لو كان ثابتا لعلمناه.

والطريقة الثانية تقدمت الإشارة إليها، وهي حسن الاستفهام، فيصح أن يستفهم من قال: اضرب زيدا إن كان قائما، بأن يقال له: هل نضربه إن كان قاعدا. وكذلك يصح الاستفهام عن قوله: "في سائمة الغنم الزكاة"، بأن يقال: فهل المعلوفة زكاة؟ ولولا كون المسكوت عنه مما يحتمل أن يكون موافقا للمنطوق به، ويحتمل أن يكون مخالفا لما حسن الاستفهام.

والطريقة الثالثة أنه لو أشعر الخطاب بأن المسكوت عنه بخلاف المنطوق به، لما صح أن يضاف إلى الخطاب ما يفسد هذا الإشعار وينقض دلالة المنطوق، قد علم أنه يحسن أن يقول القائل: في سائمة الغنم وفي معلوفتها الزكاة، فلو كان ذكر السائمة ينفي الزكاة عن المعلوفة لكان ذكر المعلوفة كالمناقض لدلالة الكلام الأول.

والطريقة الرابعة أن النطق إذا وضع ليدل على أن ما عداه بخلافه، كان النطق الذي قام الدليل فيه على أن المسكوت عنه مساو، يصير الخطاب مجازا.

فهذه مسالك القوم، وأجاب الآخرون على جميعها.

أما الطريقة الأولى فأجابوا عنها بأنا سنريكم الأدلة على إثبات ما قلناه، وأنتم إنما أثبتم مذهبكم لزعمكم أنا عاجزون عن تصحيح مذهبنا وها نحن نصححه.

وأجابوا عن الطريقة الثانية بأن الاستفهام إنما يقبح في النصوص التي لا احتمال فيها، وأما ما يدخله أدنى احتمال فلا يقبح فيه الاستفهام، ألا ترى أن القول بالعموم ثابت عند الصائرين إليه، ويرون قولنا: اقتلوا المشركين يقتضي الاستيعاب، ولكن اقتضاؤه للاستيعاب اقتضاء الظواهر، ويحتمل أن يكون القائل: اقتلوا المشركين أراد الحربيين دون المعاهدين، فيحسن أن يقال له: هل تقتل المعاهدين أم لا؟ وكذلك دلالة النطق على أن ما عداه بخلافه إنما حسن الاستفهام فيه لأجل ما يقع في النفس من إمكان أن يكون المتكلم اقتصر على ما اقتصر عليه من الصفة المذكورة (ص ١٤٧) لغرض صحيح غير إشعاره بأن المسكوت عنه في الحكم بخلاف المنطوق به، فلهذا حسن الاستفهام.

وأجابوا عن الطريقة الثالثة بأن هذه الأمور إنما تدل عند تجريدها عن القرائن التي تنقلها عن أصلها، ولهذا قال الجمهور: إن صيغة القول: افعل، تدل على الوجوب عند

<<  <   >  >>