فإذا قلب هذا الوضع والترتيب فقال: صديقي زيد، لم يقبله إلا لغرض، ولا غرض فيه إلا حصر الصداقة على زيد، حتى يصير بحرصها كالمعرفة التي حسنت البداية بها، فيستفيد السامع من هذا الكلام معنى لم يكن عنده، وهو [أن] المتكلم لا صديق له إلا زيد، فإذا قال: زيد صديقي لم يستفد منه ألا صديق له إلا زيد، كما استفيد ذلك من قلب هذا الترتيب.
وقد رأيت القاضي أبا محمد عبد الوهاب سلك مسلكه هذا، ورأى أن قوله:"الشفعة فيما لم يقسم" يلحق بالمفهوم الذي لا يجب التنازع فيه، واعتل بأن اللفظ يفيد أن الشفعة محلها ما لم يقسم، وهي مقصورة عليه. وكذلك على رأيه الحديث الآخر، وهو قوله:"تحريم الصلاة التكبير".
وإذا نجز الأول في دليل الخطاب، وعبارته، وأقسامه، والمذاهب فيه، وأدلته، فلنذكر طبقته عند القائلين به في الدلالة.
فاعلم أن الغالب على مفهوم الموافقة البالغ أعلى مراتبه أن يكون نصا لا احتمال فيه، والصنف الذي يعرض فيه الاحتمال حتى يكون كالظواهر نادر فيه.
والذي لا احتمال فيه كقوله تعالى:(ولا تظلمون فتيلا) فلا احتمال فيه في هذا الكلام، لكون الكثير لا يظلمون فيه.
والذي يحل محل الظاهر كقوله تعالى:(ومن قتل مؤمنا فتحرير رقة مؤمنة)، فقد قيل: إن القتل عمدا يوجب الكفارة من باب أولى وأحرى، لأن الكفارة تمحيص الذنب، فإذا وجبت في المخطئ [الذي] لا ذنب عليه، فالعامد الذي عظم ذنبه أحرى وأولى باحتياجه إليها.
وأما مفهوم الخطاب الذي هو بعكس النطق، فالغالب فيه أنه لا يدل دلالة الظواهر، ويتنزل منزلة العموم الذي قد يستعمل مستوعبا لكل ما اشتمل عليه اللفظ، وقد يستعمل غير مشتمل على جميع مسمياته، لكن الأظهر من الاستعمالين الشمول والاستيعاب، وقد تقدم هذا.
فإذا تنزل منزلة العموم فقد ذكرنا أن هذه الدلالة على الاستيعاب التي هي الظاهر من حكم اللفظ العام، بترك الأدلة والقرائن المقترنة، وكذلك دليل الخطاب يستعمل أيضاً