وهذا الاستقراء أوضح الاستقراءات، ذكرها العلماء في مسائل حاولوا فيها إثبات الإجماع، هي مسطورة في كتبهم، فهذا الذي كان ظهر لي وأبديته مناظرا في سن الحداثة، ونقض عندي بحديث ذي اليدين، وأجبت بأنه خبر واحد، وبأنه قد تؤول قوله:"كل ذلك لم يكن"، على أن المراد به لم يكن القصد والنسيان معا، وبأن معنى الحديث: لم يكن ذلك في علمي واعتقادي. ولو اشترط هذا نطقا فقال: لم يكن ذلك في اعتقادي، لم يكن كذبا، فكذلك إذا جعلنا هذا الكلام مقدرا مضمرا، فهذا الذي كان جرى مني قديما. وعندي الآن في المسألة نظر يطول استقصاؤه، فهذه جملة القول في الأخبار.
وأما أفعال الجوارح فلا شك في تقرر الإجماع على عصمة الأنبياء عن الفواحش والكبائر الموبقات، وإنما اختلف الناس في الطريق التي منها علمت عصمتهم عن هذا، فذهب أهل الاعتزال وقوم من أئمتنا إلى أن ذلك يمتنع عقلا. فأما المعتزلة فأشاروا إلى طريقتهم المعروفة في التحسين والتقبيح العقلي، فقالوا: تجويز الكبائر والفواحش المبوقات كالزنا والسرقة والحرابة، والمتساكن بالمأمور ينقص من الأقدار ويزري بفاعله، وتسقط هيبته من النفوس ويوجب (ص ١٥٦) احتراز اعتقاد خساسته، وهذا لا يصح إضافته للرسل لأن فيه تنفيرا عنهم.
وأما القاضي فإنه قال: لا طريق إلى العصمة إلا ما قدمناه من دلالة المعجزة، والرسول لم يستدل بها على أنه لا يعصي، فإذا لم تقع المعجزة على العصمة من ذلك بقي الأمر على الجواز، لكن الإجماع انعقد على عصمتهم من الكبائر، فصرنا لذلك من جهة الإجماع عليه.
وأما الصغائر فإن هذه العبارة فيها مشاحة، قد ذكرت في كتب الكلام، قيل فيها: إن الشيء يكون صغيرا إذا نسبت إلى مخالفة أمر آخر، والباري سبحانه مخالفته تجب أن تكون كبيرة عظيمة على الإطلاق، لعظيم حقه على المأمورين، وعظيم ما يتخوف من سطوته، ولكن عن تسليم العبارة المتداولة، واشتهار المراد بها، فبين أئمتنا اختلاف في وقوع الصغائر، فمنهم من منعها، ومنهم من أجازها.
وجنح المجيزون لها إلى أن وردت في الشرع أخبار تشير إلى أنها قد وقعت من الأنباء، كقوله تعالى:(ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)، وتأول الآخرون هذا على أن المراد به ما تقدم وما تأخر مما أحدثه قبل النبوة، أو على أن المراد بهذا الخطاب أمته صلى الله عليه وسلم.