للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النظر عنه أنه ضروري. ولو بشع على القاضي هذا بأنه يوجب أن العلم بالمستحيلات كلها ضروري، ومع هذا إنما يعرف كونه ضروريا بالنظر، لم يلتفت إلى هذا التبشيع، وسلك في الطريق التي أريناك.

وقد عورض القاضي بأن العلم بكون العالم عالما هو عين علمه بالمعلوم من غير مزيد، فإذا كان ذلك العلم بعينه ضروريا فكيف يتصور من جهة أخر نظريا. وهذه معارضة لا تلزم، لأنا إنما ننكر التناقض المتزاحم على ذات واحدة من جهة واحدة، وأما من جهتين فلا، وكون العغلم علما جهة، وكونه نظريا أو ضروريا جهة أخرى، فلا يعد في تعدد الطرق بتعدد الجهات، وهذا إنما يحسن التدقيق فيه في كتب أصول الديانات.

وأما كيفية الوقوع والنظر فيه من جهة الاستناد فإن الجميع أطلقوا القول بأن هذا العلم مستند إلى الأخبار المتواترة، وأنكر أبو المعالي هذا، ورأى أنه مستند إلى القرائن [و] وكثرة العدد الذين لا يمكن في العادة تواطؤهم، ولا الكذب، ولا اتفاق وقوعه منهم غلطا، وسمعوا مع عدم التواطئ، وما في معناه، فإذا حصلت هذه القرائن وقع العلم الضروري، فكثرة عدد المخبرين أحد أوصاف القرينة التي يقع العلم عندنا [بها]. وطرد أصله في هذا حتى لم يستنكر وقوع العلم الضروري بخبر واحد، فإذا إضامته قرينة، وتمثل في هذا برئيس وقور قد ألف من سيرته ما ملأ من هيبته الصدور، إذا خرج شاقا جيبه، لاطما وجهه، ناتفا شعره، ينادي: وا ثكلاه، وا ولداه، قد خلع رقبة الوقار التي اعتادها، وأخبر بموت ابنه، والغسال متشمر داخل، خارج للغسل، والجنازة حاضرة، فإن هذا يعلم ضرورة صدقه في موت ابنه.

وجمهور أئمتنا ينكرون هذا، ويرون أن العادة كما أطردت بوقوع العلم الضروري عند الأخبار المتواترة، فكذلك طردت بعدم وقوع العلم عند خبر واحد، ولو صور في مقارنة خبره كل قرينة، ويرون أن هذا الذي تمثل به أبو المعالي ربما تحقق وقوعه من هذا الموصوف كذبا لغرض ما، بخلاف العدد المتواتر فإنه لا يتفق منهم مع الكثرة تعمد الكذب، ولو جمعهم عليه جامع لم يقع العلم، ولظهر ثاني حال منهم الإشعار بتواطئهم، ولو صور في هذا أيضا من المثل من لقيناه بقرب حمام، وسلطه بيده، ومئزره يقطر ماء، ووجهه محمر يتصبب العرق على وجهه، فذكر أنه خرج من الحمام فإنا نعلم صدقه ضرورة.

ومثل هذا بعض المتأخرين بأن الضارب باب صديق له، فخرج إليه خادمه، فيقول له: قال لك: ادخل، فإن الدخول مباح له، وربما وقع العلم الضروري لسامع خبر الخادم بصدقها من قرينة حال شاهدها منها، وذكر عن هذا المتأخر أنه أفرط حتى زعم أنه يعلم

<<  <   >  >>