للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يمكن في العادة أن يقع منهم الكذب اتفاقا منهم على تعمد، أو يتفق من جماعتهم وقوعه منهم سهوا وغلطا، مع انتفاء أسباب التواطى، وما في معناه من الأمور الحاملة للعدد الكثير على الكذب، فإن هذه الأوصاف هي المشار إليها بأنها قرائن على الجملة، فأنت ترى كيف صارت الكثرة أحد مجموع هذه القرينة المقتضية للعلم عند سماع الخبر المتواتر.

وأما من سواه فإنهم تحزبوا أحزابا، فمذهب جماعة المحققين اعتبار ثلاثة شرائط:

- أحدهما: كون المخبرين كثرة.

- والثاني: كون المخبرين يخبرون عما علموه ضرورة، وقد عبر بعض الطائفة عن هذا الشرط الثاني، بأن قالوا: يجب أن يكونوا يخبرون عما علموه حسا، فأبدلنا قولنا: ضرورة بقولهم: حسا. وهذا متعقب عليهم، لأن المخبرين لو أخبروا عن خجل الخجل الذي علموه من قرائن الحال لوقع عن خبرهم [العلم]، إذ كانوا من الكثرة بحيث لا يتفقون على الكذب، وهذا العلم وإن استند إلى الحس على وجه ما، فمجرده المحسوس لا يكفي في وقوع العلم، لأن الحمرة إنما يدرك الحس ذاتها، وقد أخبرنا أن حمرة الخجل كحمرة الغضبان، يفرق بينهما بأمر يدق عن ضبطه بالعبارة، أو تحديده في الحس.

وإنما شرطنا أن يكونوا مخبرين عما علموه ضرورة، لأن المسلمين والنصارى واليهود يبلغون من الكثرة إلى ما يفوت الإحصاء والعد، ويخبرون عن حدث العالم، ولا يقع العلم الضروري بصدقهم في خبرهم، لما كانوا قد أسندوه إلى دليل، فكيف يكونون وهم لا يعلمون ما يخبرون عنه بالضرورة، وهم أصل في هذا الخبر، ثم من سمعهم، وهم كالفرع عنهم، يعلم صدقهم بالضرورة، فيصير الفرع أقوى من أصله، وهذا محال.

- والشرط الثالث: أن يستوي طرفا الخبر وواسطته، فإذا أخبرت الصحابة بظهور محمد صلى الله عليه وسلم، وقع لمن سمعهم العلم الضروري بصدقهم لأنهم كثرة أخبروا عن مشاهدة، وهكذا إخبار العصر الثاني الذي سمع منهم، إلى العصر الثالث، إلى أن تنتهي الأعصار إلينا، فيعلم ضرورة صحة هذا الخبر.

فلو اتفق انحلال في أحد الأعصار الوسائط بيننا وبين الرسول عليه السلام، حتى لم يكونوا من الكثرة بحيث يوجب خبرهم العلم الضروري، لا يحل العلم الضروري لنا نحن لعدم الشرط في واسطة من هذه الوسائط، ولهذا قلنا: إن اليهود وإن كانوا من الكثرة بحيث لا يمكن اتفاقهم على الكذب، فإنهم وإن نظروا إلينا أن موسى صلى الله عليه وسلم أخبرهم بتأبيد شريعتهم لا يقع العلم لنا بصدق ما قالوا، لأن الدخيلة دخلت على الكثرة من مبدأ الخبر، فإنه لم يكن عن كثرة. وقد قيل: إن ابن الراوندي لقنهم هذه الكذبة ليجادلوا بها المسلمين،

<<  <   >  >>