إفرادا، أو كان قدم قبلها عمرة، حتى صار متمتعا على حسب ما صار إليه الفقهاء الثلاثة مالك والشافعي وأبو حنيفة من كون الإفراد أفضل، أو غايره على حسب ما ذهب إليه مالك. فيقول المعترض هاهنا: حجة النبي صلى الله عليه وسلم واحدة، واجتمع إليه فيها سائر المسلمين، وحجوا معه، فما بالهم اختلفوا في الذي فعل، ومن حقه على أصلكم التطابق على نقله، والتطابق يقتضي اتفاق النقل، لأن أهل التواتر لا يكذبون، ولا يخالف تواتر تواترا.
والجواب عن هذ أنا نقول: مقدار ما يتعلق بما ذكرتموه قد تطابقوا عليه، على نقله ولم ينكتم، ولا اختلفوا فيه، بل جروا فيه على الأصل الذي قررناه، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة وأتى مكة، وطاف وسعى، ووقف بمعرفة، ونزل بالمزدلفة، وهذا الذي لم ينازع فيه مسلم مسلما، والزيادة عليه ليست جارية على الأصل الذي قررناه، لأن صورة حج المنفرد، وحج القارن سواء بسواء، لا يختلفان في فعل أصلا مشاهد محسوس، تعم مشاهدته على رأي مالك رضي الله عنه الذي يرى أن القارن يطوف طوافا واحدا، ويسعى سعيا واحدا لحجة وعمرة، وإنما يختلفان من ناحية النية وعقد الضمير، وهو أن المفرد ينوي بفعله الحج خاصة، والقارن ينوي بفعله الحج والعمرة معا، والنية لا يطلع عليها ولا يشاهدها خاص من الناس ولا عام، ونحن نصحح الحج، وإن لم ينطق الحاج بما أضمره منها، ولو فرضنا نطقه بذلك لم نشترط أيضا أنه مما يجب أن يشتهر، أو يجب أن يتكرر تكرارا يدركه الخاص والعام، وهذا لا يشك في صحته عاقل عارف بأحكام العادات. ولو سلمنا أنه عليه السلام كان قارنا ونطق بذلك لكان العذر عند أصحاب هذا المذهب أن يكون سمع سامع منه أحد اللفظتين، وهو تلبيته بالعمرة، وذهب عنه قبل أن يسمع التبية بالحج، فظنه متمتعا، وسمع آخر تلبيته بالحج خاصة فظنه منفردا، وسمعه آخر فاعتقد أنه قارن. فإذا تصور طريق عذر يعلم منها سبب اختلافهم، فلا وجه للقدح في أصل عظيم علم بالضرورة بمثل هذا السؤال. وقد ذكرنا جملة المعاذير التي قيلت فيه في كتابنا المترجم بالمعلم.
وقد يضعف السؤال على أصل من قال من العلماء: إن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين، ولكن له أن يجيب عن هذا بأنه قد لا يلزم من جهة اشتهار العادة [أن يعلم] كل طواف يطوف، وإنما يلزم في العادة اشتهار الطواف على الجملة.
وقد يقال: تدخل الدخيلة في النقل، لأجل اعتقاد من يعتقد أن الطواف المتكرر تطوع، والتطوع لا يهم أمره، فينقل كما ينقل الفرض (ص ٢٠٠). وقد قيل: إن الاهتمام بحقيقة هذه الحجة لا يسلم اطراد العادة به، لأن الجميع من إفراد وقران وتمتع سائغ، وإنما اختلاف العلماء في أيهم أفضل، وقد لا يهتم نقل الأفضل، كما يهم نقل الفروض.