للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فكيف يطمع أن يتخيل ذو تحصيل من منع ورود التعبد بأن يقول الله سبحانه: إذا روي لك راو عدل أنه سمع النبي عليه السلام يأمر بكذا، فاعمل على ما نقل لك عنه، وإن كنت تجوز الغلط على الناقل، فإني رفعت الحرج عنك فيه، وإن غلط وأنت ممتثل أمري في ذلك كامتثالك أمري فيما أمرتك به من اتباع رسولي فيما قاله لك شفاها، وهذا أوضح من أن يحتاج إلى إطناب.

ثم إن أمثل ما يورده هؤلاء المحيلون للتعبد بذلك، أن المصلحة في العبادات والجري على مقتضى الحكمة واجب، وليس من المصلحة والحكمة للخليقة إراقة دمائهم واستباحة أموالهم بخبر لا يعرف باطنه، ولا يدري سامعه هل هو صدق أم كذب. وأنت في جوابهم عن هذا بالخيار، فإما أن تمنعهم من نقلهم الفاسد في تعليق التكاليف على المصالح، وقد مضى في صدر هذا الكتاب في إبطال مذهبهم فيه، وإبطال ما بنوه عليه من التحسين والتقبيح العقلي ما فيه إيضاح للحق، وإما أن تسلمه لهم، وتمنعهم من كون خبر الواحد خروجا عن الحكمة والمصلحة، إذ لا يمتنع أن يكون صلاح العالم وانتظام أمورهم في قبولهم خبر العدول عن عدوهم لعدة التواتر في الأخبار، وقبوله ما يوجد منها معلوما علما ضروريا، وإما أن تناقضهم بما قدمناه من ورود التعبد بقبول شهادة شاهدين، وقبول قول مفت واحد عمل فيه بقياس مظنون، وتسألهم عن الفرق بين هذا كله، وبين خبر الواحد فلا يجدون فرقا إلا الخوض في خيالات واضحة الفساد، كقولهم إن المفتي والقاضي والشاهد أمورهم مقصورة على شخص بعينه، والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه على سائر الناس، وهذا فرق منهم من غير موضع الجمع، لأنا قلنا قد ورد التعبد بالمظنونات، ولم يكن ذلك تغريرا بالأحكام، ولا فسادا في الحكمة والمصلحة، فكذلك خبر الواحد في ورود التعبد به، وإن كان ظنا. هذا وقد يقضي القاضي، ويشهد الشاه، ويفتي المفتي بأمور تتعدى إلى الجماعات، وقد ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخص فيلزم العمل به.

وهكذا يجابون إن قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقبل خبره إلا بمعجزة تثمر العلم بصدقه، فخبر غيره أولى أن لا يقبل، ونحن لا نعلم صدقه، لأن الرسول تعبدنا بأن نعلم صدقه، والظن لا يكفي عن العلم والقطع لكونهما ضدين، ونحن تعبدنا في خبر الواحد بالظن. هذا ونحن نقول: لم نعمل في خبر الواحد بالظن، بل عملنا بالعلم، وبما قام عليه

<<  <   >  >>