للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الخطاب، وإلى أن العموم (ص ٢٠٨) إذا نزل على سبب تعدي سببه وأخذ بحكم اللفظ وعمومه، فلا مطمع لهم في مدافعة هؤلاء.

وأما الآخرون الذين ينكرون هذا، فإنا كنا قدمنا أن الوصف المتعلق به الحكم، إذا كان لفظا مشتقا من معنى مخيل بالحكم مناسبا له، فإنه يكون علة للحكم، وهذا اللفظ في هذه الآية واضح في الإخالة بالحكم، لأن الفاسق الذي لا دين له ولا مروءة، ولا يتقي عار الكذب وفضيحته، يعلم منه أنه لا زاجر له عن الكذب، وأنه يتساهل فيه فلا يوثق بخبره، ولا يجد الإنسان في نفسه الإصغاء إلى قوله والتعويل عليه، بخلاف ما يجده العقلاء في أنفسهم إذا أخبرهم العدل الورع المتحفظ على دينه، إنه دينه وروعه يزجره عن الكذب ويمنعه منه، والنفوس مائلة إلى قوله معتقدة صدقه، فلو كان الفاسق والعدل سواء، لم يكن لهذا المعنى المخيل بالحكم الذي هو رد للخبر معنى، ولا كان لذكره وجه ولا فائدة، ولكان الخطاب: إذا جاءكم واحد بخبر فتبينوا، أو إذا جاءكم العدل بخبر فتبينوا، لينبه بالعدل على أن الفاسق أولى بالتثبت في خبره، وإذا أمرنا بالتثبت فقد تضمن ذلك الرد لخبره وأنا لا نعمل به ولا نعول عليه. وهذا من جنس استدلال أئمتنا على أن المؤمنين يرون الله سبحانه يوم القيامة لقوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)، فدل ذلك على أن المؤمنين غير محجوبين، لأن سياق هذه الآية وما قبلها يقتضي أن الكفار مهانون مخزيون مطردون عن ربهم لأجل كفرهم، فلو كان المؤمنون محجوبين أيضا لم يكن لهذا التخصيص بالهوان والطرد والخزي معنى يزجر الكفار عن كفرهم.

ودافعونا أيضا عن الآية بأن قالوا: قال تعالى في سياق أمره بالتثبت في خبر الفاسق ما أشار به إلى التعليل لأمره فقال: (أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، والواحد العدل إذا أخبر بخبر، فإنا نجوز كذبه، وإذا عملنا بخبره خفنا أن نصيبب القوم بجهالة فنندم على ما فعلنا إذا اطلعنا على كذبه. فيقال لهم: إذا كانت العلة في رد خبره تجويز الكذب عليه، فلا تقبل شهادة عدول في شيء من الحقوق لجواز كذبهم، ولأن القاضي قد يطلع في ثاني حال على أنهم كذبوا فيندم على ما أراق بشهادتهم من دماء وأباح من فروج وأموال، ورد الشهادات في سائر الحقوق معلوم من دين الأمة ضرورة فساده.

فإن قالوا: يلزم على هذا التعليل ما قلتموه، ولكن خص من هذا التعليل الشهود بالإجماع. قيل لهم: بين الأصوليين اختلاف في جواز تخصيص العلة الشرعية، فمن أحال ذلك منهم فلا مطمع لكم فيه أن يقبل هذا الانفصال، وأما من أجاز ذلك فإنه يقول: التقدير في التعليل غير ما قدرتموه، والجهالة هاهنا السفاهة والتهون في الأمور والهجوم عليها

<<  <   >  >>