للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بمقتضى أول خاطر من خواطر النفس ووسواسها، والفاسق قد قررنا أن خبره كالعدم، وأنه لا يظن صدقه في خبره، بل ربما ظن كذبه، فالهجوم على استباحة الدماء والأموال بخبره هجوم على ذلك بحكم خواطر النفس ورجم الظنون التي لا تستند إلى أصل، والقصد تنبيه النبي عليه السلام على أن الرجل ليس بعدل في الباطن كما ظن به، وإذا ثبت عند النبي عليه السلام أنه ليس بعدل بهذا الوحي، صار الإقدام على العمل بخبره هجوما على الأمور برجم الظنون، ولو كان المراد ما قالوه من أن كل من جوز العقل كذبه، فإن العمل بخبره جهالة لم يكن للتقييد بذكر الفاسق هاهنا معنى، بل كان يقول: إذا جاءكم واحد أو آحاد من الرجال فتثبتوا، لجواز كذبهم.

وبالجملة فإنك إذا استمسكت بذكر الفسق هاهنا، ورأيت أن السياق يشهد على أنه علة في الرد، وأن العلة مخيلة مناسبة للحكم هان عليك إبطال ما حاجوك به مما ذكرنا، ومما لم نذكره في هذه الآية.

وتعلق أصحابنا أيضا بآية ثانية وهي قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، والفرقة عبارة عن جماعة، وأقل الجماعة على أحد القولين ثلاثة، وطائفة الشيء بعضه، وبعض الثلاثة واحد، فخرج من هذا أن المراد بقيد فخرج واحد لينذر من رجع قومه، لا سيما إذا حملنا قوله تعالى: (قومهم) على أن المراد به إنذار كل واحد في نفسه لقومه، وإنما جمعوا بعد تقدير الافتراق في الإنذار، وأن واحدا إذا أنذر قومه ثم واحدا واحدا، حسن هاهنا الجمع في قوله: (ليتفقوا في الدين ولينذروا قومهم).

وقد دافع المخالف عن هذه الأية أيضا (ص ٢٠٩) بأن قال: المراد إنذار جماعة لقومهم، ونحن قدمنا الانفصال عن هذا لما أريناك وجه الاستنباط من الآية، وأن الفرقة إذا كانت ثلاثة فبعضها واحد، فهذا انفصال عما دافعونا من هذا الوجه.

ودافعوا أيضا بوجه ثان، وهو أن المراد فتوى من يفتي، والمفتي يصح أن يكون واحدا. وأجيبوا عن هذا بأنه عطف على ذلك: (ولينذروا قومهم)، والإنذار الإخبار بما يجب [أن] يحذر منه، وهذا خلاف الفتيا.

فدافعوا عن هذا أيضا بأن قالوا: لو سلمنا هذا كله، لم يقتض أكثر من أمر الواحد بالإخبار والإنذار، ولكن لا يتضمن هذا أن المنذرين يجب عليهم القبول منه والعمل

<<  <   >  >>