للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بإنذاره، وكم في الشريعة من حكم يختلف في مثل هذا، والشاهد الواحد يجب عليه أن يشهد إذا تعين ذلك عليه، ولا يجب على القاضي قبول ذلك منه والعمل بشهادته حتى ينضاف إليه الآخر. والمحارب إذا طلب المال وخاف المطلوب [منه] من القتل إن لم يبذل ماله، فإنه مأمور ببذل ماله، والمحارب منهي عن أن يقبل منه ما بذل.

والجواب عن هذا أن سياق الآية يدفع هذا التأويل، لأنه سبحانه قال: (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، فلو كان التعبد والتكليف إنما ورد على صفة ما قالوا، بأن تعبد الله هذا الواحد بأن ينذر قومه، وتعبد قومه بأن لا يقبلوا منه، كما تعبد القاضي بأن لا يقبل من الشاهد الواحد، لم يكن لقوله تعالى: (لعلهم يحذرون) معنى، لأنهم لم يجب عليهم الإصغاء إلى قوله وتصديقه حتى يحذروا ما حذرهم منه.

وقد تعلق بعض أصحابنا بآية ثالثة، وهي قوله تعالى: (ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم)، والأذن هو الذي يسمع كل ما يقال، وجعل الله سبحانه ذلك خيرا لنا، فاقتضى ذلك قبول خبر الواحد.

والتعلقُ يمثل هذا لا وجه له عندي لظهور ضعفه، وإنما يحسن التعلق بالآيتين اللتين قدمناهما، وأقواهما في التعلق آية الحجرات، على أنك قدر رأيت ما فيها من الاعتراضات والانفصالات عنها. فأما كونها ظاهرة في الاستدلال على قبول خبر العدل فلا شك فيه، وأما إلحاقها بمرتبة النصوص التي لا تحتمل التأويل، فهذا مما لا ينظر فيه، وقد قدمنا لك في كتاب التأويلات ما تزن به كل تأويل حتى تعلم ما يخرك عن كون ما تعلقت به نصا وما لا يخرجك عنه، وتعلم مرتبة اللفظ إن خرج عن كونه نصا في طبقة الظواهر. فإن خفت التشغيب عليك إذا تعلقت بهاتين الآيتين فلتتعلق بالسنن.

وقد نبه الشافعي على وجه التعلق بها فقال: إن النبي عليه السلام بعث رسله وعماله وسعاته إلى سائر الجهات والأقاطر مبلغين عنه ما أنزل عليه من الأحكام، فلو كانوا لا يجب القبول منهم لم يكن لإرسالهم معنى، وهذا الذي نبه عليه الشافعي استدلال صحيح، وقد تواترت الأخبار من جهة المعنى والمعقول على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رسله على الجملة بالشرائع والأحكام إلى جهات شتى، وفهم أن الغرض القبول منهم، والتسليم إليهم ما بعثوا فيهم.

فإن قيل لك: هذا فعل من النبي عليه السلام، وأفعاله مقصورة عليه، أو ليست على الوجوب على [ما] تقدم ذكره في باب أحكام الأفعال؟، فإنك تقول [ذلك] هاهنا، أما من صار إلى التعلق بأفعاله فلا دافع له عن هذا الاستدلال، وأما من توقف فيها فإنه يرى أن المفهوم عن الصحابة والأمة العمل بمثل ما عمل به والاعتماد عليه، فحوجك هذا إلى أن تتمسك بالإجماع، وسنبينه.

<<  <   >  >>