هذا الفسق أو الكفر إلا عن تأويل. فأما الفسق المقصود إليه عن علم بكونه فسقا كالزاني وقاتل النفس، فإن الاتفاق حصل على أنه يوجب رد الرواية.
وذكر أبو المعالي أن أصحاب أبي حنيفة، وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق فإنهم لم يبوحوا بقبول روايته، والذي أشار إليه من قبولهم شهادة الفاسق كثر الاضطراب في نقل هذا المذهب عنهم، ولا شك في أنهم صرحوا بصحة انعقاد النكاح مع حضور شاهدين فاسقين، لم يحضره من الشهود سواهما، وخالفوا في ذلك الشافعي في مصيره إلى أن النكاح لا ينعقد ولا يصح إذا اقتصر فيه على حضور شاهدين فاسقين. وبعض أئمتهم ينكر إثبات النكاح بشهادة فاسقين، وبعضهم يرى أن شهادة الفاسق تثبته، وتوجب القضاء به عند التجاحد.
وذكر أبو المعالي في بعض مصنفاته الفقهية، أن الذي تحصل له من مذاهب القوم أنهم يصرفون قبول شهادة الفاسق إلى اجتهاد القاضي، فإن غلب على ظنه صدقه مضى شهادته، وإن مضى على ظنه كذبه رد شهادته. وإلى هذه المعاني أشار أبو المعالي بقوله:"وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق فإنهم لم يبوحوا بقبول روايته".
فأما الشافعي فلا يحتاج إلى اعتذار عن مذهبه، لأنه ساوى بين الأمرين في شهادة الفاسقين، فقال: لا يثبت انعقاد النكاح بحضورهما، ولا يقضي به عند التجاحد بشهادتهما، لأنه يرى الشهادة في النكاح شرطا فيه كالولي عندنا لورود الحديث عنده بذلك، كما ورد في الولي. والمفهوم من الشرع أن حضور الشاهدين إنما يقصد به الاحتياط للفروج، والقضاء بالنكاح عند التجاحد، وهذا لا يصح إلا أن يكون الشاهدان ليسا بفاسقين.
وأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم يرون أن ورود الشرع باشتراط حضور شاهدين حين العقد تعبد غير معقول المعنى، والفاسقان يسميان شاهدين، فدخلا في الظاهر، بخلاف لو حضر النكاح صبيان، أو عبدان، وأو ذميان، فإن هؤلاء لا يسمون شهودا.
وأما من اجترأ منهم على القضاء بالنكاح عند التجاحد بشهادة فاسقين ليطرد اصله، حتى لا يفرق بين حال الانعقاد وحال القضاء، فإن ذلك غلو وإسراف ومراغمة لما مضى به عمل المسلمين من اعتبار العدالة في القضاء بشهادة الشهود على الجملة. وقد ذكر عنهم أنهم سلموا [أن] حد الزنا لا يقام بشهادة الفساق، وسلموا أن الراوي إذا كان فاسقا لا تقبل روايته، وهذا ينقض عليهم ما ذكروه من القضاء بشهادة فاسقين بثبوت النكاح، وقد وقع التجاحد فيه. فهذا الكلام في الفسق الواقع عن عمد وقصد.