وأما الفسق الواقع على جهة التأويل كما ذكرناه في اعتقاد المعتزلة والخوارج، فإن الأصوليين مختلفون في قبول رواية مثل هؤلاء، فمنهم من رأى أن ذلك لا يمنع من قبول الرواية، لأنه إنما وقع وفاعله يعتقد أنه مما يقربه إلى الله سبحانه، فلم يظهر منه من قلة مبالاته بالدين ما يتهم به في روايته، بخلاف الزاني وقاتل النفس. ويحتج هؤلاء بأنه كإجماع من الصحابة، لأنهم قبلوا شهادة من قاتل عثمان وروايته، وقبلوا رواية الخوارج أيضا. ومن الناس من رأى أن ذلك يمنع من قبول الرواية، وهذا الذي نصره القاضي أبو بكر ابن الطيب.
وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: الواجب قبول ذلك منهم، إلا أن يكون فسقا يؤدي إلى البراءة والضلال، والكفر الواقع على جهة التأويل كمذاهب الخوارج إذا كفرناهم بها على أحد القولين، يجري على هذا الاختلاف المذكور، وقد اختلف الفقهاء في قبول شهادة الكافر أو الفاسق على جهة التأويل، فمنهم من قبلها، وإلى ذلك صار الشافعي في أهل الهوى (ص ١١٤)، واستثنى منهم الخطابية من الرافضة لأجل أنهم يرون الشهادة لمن وافقهم عمن خالفهم، ومنهم من ردها، ومنهم من فرق بين الكافر بالتأويل والفاسق بالتأويل، فرد شهادة الكافر بالتأويل، وقبل شهادة الفاسق بالتأويل.
ويجب أن يجري هذا الخلاف في رواية الراوي، وقد ذكرنا اختلاف القاضي أبي محمد عبد الوهاب، وأنه رأى أن من كان فاسقا من جهة الحكم، فإن روايته مقبولة، إلا أن يقضتي ذلك البراءة والضلال، فإن كان أشار بهذا إلى التفرقة بين الكافر المتأول والفاسق المتأول فهو المذهب الثالث الذي حكيناه.
وهذا الذي وقع في هذا الفصل من هذه العبارة هو لفظ جرى على ألسنة العلماء، وإما فكل كافر متأول، واليهود والنصارى متأولون، لأجل أنهم يعتقدون أنهم مصيبون في مذاهبهم، ويستدلون على صحتها، لكنهم لا تطلق عليهم هذه العبارة، وإنما يطلقها العلماء على من كان من أهل القبلة، فاعتقد اعتقادا أداه إلى كفر أو فسق، وإذا تحققت أن كل كافر متأول حتى اليهود والنصارى، فإن لك أن تجعل الاتفاق على رد رواية اليهود والنصارى حجة في رد رواية الكافر المتأول، لما نبهناك عليه من أن الكل متأولون في كفرهم. وتدين الرهبان المنطقعين عن الدنيا من أهل الكفر، وتحريهم الصدق في أحاديثهم لا يبيح قبول روايتهم، فكذلك ما اعتل به من قال من أصحابنا بقبول رواية الفاسق المتأول من أنه يدين بتحريم الكذب، ويتحرى الصدق، لأن الرهبان بهذه الصفة، ومع هذا فخبرهم غير مقبول.