ونحن وإن كنا قدمنا أن المطلوب من الرواية حصول الثقة، فإنا لا نقتصر على مجرد هذا، بل نقيده بإضافة شرائط إليه تعبدية الشرع، وكم من صبي وبعد يوثق بما يقول، ويعلم منه اعتياده الصدق، ثم مع هذا لا تقبل شهادته، وإن حصلت الثقة بقوله. ولهذا نبه مالك رضي الله عنه في الكلام الذي قدمناه على هذه المعنى لما ذكر الأربعة الذين لا تقبل روايتهم، فعد منهم من يكذب على الناس، وإن كان يصدق في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أن اعتياده الصدق في حديث عن النبي عليه السلام لا يوجب قبول حديثه عنه لجرحته بالكذب على الناس، فمجرد الثقة عمدة معتبرة، ولكن مع إضافات تضاف إليها.
ولقد كنت أسمع في سن الحداثة من إمام أئمة اللغة أشياء من اللغة، وكنت أراه من تحرية الصدق في محكيه، وهروبه إذا استثبت في لفظة عن النطق بها لأدنى شك يعرض له، ما كان يربى فيه على كثير من العدول المتحفظين، لكنه غير ثابت العدالة، وفي نفسي إلى الآن سكون شديد إلى ما كان يخبرني به من اللغة، وثقة أكيدة، لكني لم أدخل شيئا من كلامه في كتبي المتعلقة بهذا الشأن، دون اختباره من الدواوين، لأجل ما قدمته من أن الثقة وسكون النفس إلى الخبر لا يستقل ذلك بمجرده، دون شرائط تنضاف إليه، ولأجل قول مالك في مثل هذا الرجل أن اعتياد الصدق فيما يحكي من العلوم لا يقتضي القبول مع التلطخ بجرحه تقتضي التهمة.
وبالجملة فإن الثقة التي أشرت إليها في هذا الرجل لا تلحق بالثقة فيما يحكيه العدل الورع إذا التفت النفس إلى تذكار الفاسق، وأن فسقه قد يخفف عليه ركوب الكذب، لكن متى تعامت النفس عن ذكر الجرحة، ونظرت إلى اعتياد الصدق سكنت إلى الخبر.
وأما اعتماد من اعتمد على قبول الصحابة لرواية قتلة عثمان، ورواية الخوارج، فإنا لا نسلم له إجماع الصحابة على ذلك، ولا نمنع أن يكون بعضهم قبل ذلك، لأنا ذكرنا أن قبول ذلك مختلف فيه بين الأئمة.
وأما المجهول الحال وهو يسمى في العرف مستورا، فإنما العلماء مختلفون في روايته وشهادته، فأصحاب أبي حنيفة يقبلون روايته ويقبلون شهادته ولكن إذا شهد في الأموال، وأما إن شهد في الحدود أو الفروج فإن شهادته لا تقبل. وذكر بعض الناس عن الشافعي أنه يرى قبول روايته، وتمسك في هذا بأن الشافعي يرى انعقاد النكاح بشهادة المتسورين بخلاف الفاسقين، وبعض أصحاب الشافعي ينكر هذا، ويقول: قبول الرواية يتنزل منزلة القضاء بالناح، لا منزلة انعقاد النكاح، والنكاح لا نقضي فيه عند التجاحد بشهادة مستورين، فكذلك لا تقبل رواية المستورين.
وقد حكى المحاملي أن عندهم اختلافا في صحة انعقاد النكاح بشهادة المستورين، فذكر أن بعض أصحابهم قال: لا ينعقد النكاح بحضورهما، فهؤلاء أبطلوا الأصل الذي