للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد قيل: إن هذين الإمامين لو سئلا عن تعديل وقع بعبارة تؤدي إلى معنى هذه العبارة التي اشترطها هذان الإمامان لقبلا ذلك وعولا عليه، وكأنه العبارة التي اخارها إنما سلكا فيها تخفيف المؤونة على المعدلين في النظر في صيغ العبارات المفيدة لهذا المعنى، وإنما اشترط التعرض لمعنيين هما العدالة، والمعنى الآخر ما أضيف إليه من الرضا، أو من قبول القول، لأنه قد يكون الإنسان عدلا، ورعا، متنزها عن الدناءات، ملحوظا بعين الصلاح، ولكنه من البلة والغفلة بحيث لا ينبغي أن تقبل روايته ولا شهادته. وقد ذكرنا فيما تقدم عن مالك رضي الله عنه أنه قال: "أدركت بين هذه الأساطين سبعين رجلا لو اؤتمن أحدهم على بيت مال لأداها، فما أخذت عن أحد منهم حرفا"، فأشار إلى أن هذا قصر بهم عن قبول روايتهم قلة علم، لا قلة دين، وهذا هو المعنى الذي زيد لأجله في التعديل قولنا: "رضي"، حتى يثبت مع العدالة وصلاح الدين كون الشاهد مرضيا لقبول الشهادة، ليس بمغفل ولا أبله.

وقد ذكر الباري سبحانه في الشاهد هاتين العبارتين، قال: (وأشهدوا ذوى عدل منكم)، وقال في آية أخرى: (ممن ترضون من الشهداء)، ولهذا توخي مالك هاتين العبارتين وأثرهما على ما سواهما. وهذا [هو] المعنى الذي يشر إليه الشافعي أيضا بقوله: "مقبول الشهادة لي وعلي"، لكن عبارة مالك رضي الله عنه أقرب إلى التحرير، لأنه قد يكون لا يقبل شهادته للمعدل، أو لا تقبل عليه لقرابته، أو تهمة بعداوة أو غيرها، فيقدح في العبارة التي اختارها الشافعي بهذا، ولكنها مع هذا القدح أكشف لهذا المراد الذي تكلمنا عليه، وذكرنا ما تعرضا له، ولما ذكرنا هاهنا وجه اشتراط هذه العبارة عن هذا المعنى الثاني، وأشرنا أن ذلك إخبار بكون الشاهد غير مغفل، وكذلك الراوي.

فلتعلم أن الراوي المعتمد في روايته على حصول الثقة، وسكون النفس إلى صحة ما روى، واستيلاء الغفلة والبله عليه يخرم هذه الثقة، ويمنع من كون القلب مطمئنا إلى خبره، فإذا عرف بالتساهل في حديثه، والتسامح فيه، لم تقبل روايته، لأن هذا يلحق بمعنى الكذبب الذي هو جرحة، لكونه واقعا منه في المقصود المراد منه، وهو الرواية، فإذا كان ممن يتساهل فيها، ويخف عليه حذف ألفاظ من الرواية وزيادتها مما يغير المعنى، أو يظهر منه إذن في أن يروى عنه، ويعمل بها حدث به، وهو شاك فيه، ويبدي في كثير من الأحيان التصميم على إثبات ألفاظه في الحديث أو رواة، ومخايل الشك عليه في ذلك بادية،

<<  <   >  >>