للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المسألة السادسة: اعلم أنا قد قدمنا حقيقة التعديل والتجريح، وعدد من يعدل أو يجرح، وهل تجب المباحثة للمعدل أو المجرح، فلو فرضنا اختلافا وقع في شاهد أو راوٍ، حتى عدله قوم وجرحه آخرون، فإن هذا لا يخلو من قسمين، أحدهما أن يتساوى عدد المعدلين والمجرحين، أو يختلف.

فأما إن تساوى عدد المجرحين والمعدلين، بأن أثبت [التعديل رجل واحد واثبت] التجريح رجل واحد على قول من يقبل الواحد في ذلك، أو أثبت التعديل رجلان، وأثبت التجريح رجلان، فإن القاضي ابن الطيب حكى الإجماع على قبول التجريح وتقدمته هاهنا على التعديل. وما أرى الإجماع يثبت له، لأن ابن شعبان من أصحابنا ذكر في كتابه المترجم بالزاهي في ذلك قولين: أحدهما أن شهادة المعدلين أولى من شهادة المجرحين، والقول الثاني: أن المجرحين أولى، فأنت تراه ذكر في المسألة قولين.

وأما إن اختلف عدد المعدلين والمجرحين، فإن كان المجرحون هم الأكثر، فلا شك في تقدمة شهادتهم، وذلك أولى بأن يكون إجماعا على نقل القاضي ابن الطيب وقوع الاختلاف بين العلماء في ذلك.

وهذه المسألة ينجر إليها مسائل كثيرة يعرفها الفقهاء لا تكاد تحصى كثرة، وكم من مسألة في المدونة وغيرها من الدواوين المشهورة تكلم الفقهاء فيها على اختلاف الشهادات، ونظرا فيمن تقدم من الشهود، وذكروا خلافا في بعض المسائل، وعدوا مسائل أخرى من الخلاف، ولكن النكتة التي يجب أن ننبه عليها أن الاختلاف والتعارض إنما يكون إذا وقعت الأقوال على وجهين متناقضين لا حيلة في رفع التناقض عنهما، فأما إذا وجد السبيل إلى بناء ما اختلف من الأقوال، فإن التناقض لا يقطع في حصوله، فهذا يحوجك إلى النظر في اختلاف المعدلين أو المجرحين:

فإن حكيا في ذلك حكاية مطلقة بأن قال المعدل: هو عدل، وقال المجرح: هو مستجرح، فإن تقدمة الجرح هاهنا أولى، ولا يحسن الخلاف في هذا، ولو اختلف عدد المعدلين والمجرحين.

وإذا كان المجرحون عددا يستقل به التجريح، وذلك أن التعديل مبناه على الظاهر، لأنا قدمنا أن من حقيقته اجتناب المعاصي المفسدة للدين، واجتناب المباحات المسقطة للمروءة، والمعدلون إنما يحكون من ذلك ما رأوه في غالب الأحوال والأوقات، ومن الممكن أن تقع فلتة يزني فيها أو يسرق من وصفوه بحسن الدين والوقار واستقامة الأحوال، وهذا لاشك أن المعدلين يجوزونه، ويقولون: يمكن أن يكون لما جنه الليل وآوى إلى فراشه ركب في فراشه معصية كبيرة سقطت بها عدالته، ولكنا ما نعبدنا بهذا الخفي المحوز، فإذا قال المجرحون: نحن اطلعنا على هذا الخفي، ولم يره المعدلون، فإن المعدلين لا

<<  <   >  >>