يقدرون على إكذابهم فيما قالوه، إذا لم يقطعوا بكذبهم، فلا وجه لرد شهادتهم بالتجريح.
لكن لو تصور الأمر على خلاف هذا بأن يقول المجرحون: رأيناه ساعة كذا يشرب خمرا، أو سرق مالا، ويقول العدلون الذين عولوا على الشهادة على غالب حاله: كنا حضورا معه في تلك الساعة فلم يصنع مما قال المجرحون شيئا، بل كان قائما يصلي، فلا شك أن هذا تكاذب، وهذا يغمض الأمر، ويحسن وقوع الخلاف فيما تقدم من الشهادتين، ويحسن الترجيح بالكثرة في العدد، أو الترجيح يكون بقوم أظهر عدالة من قوم، على حسب ما عرف في كتب الفقهاء من النظر في الترجيح بقوة العدالة، أو بكثرة العدد، وأصل المدونة في أمثال هذه المسائل بقوة العدالة والظهور فيها، فالجانب الذي هو أظهر عدالة وأقوى ديانة هو الأقوى أن يقدم.
وأما التجريح بالكثرة فلم يلتفت إليه في المدونة، والتفت [إليه] في غيرها من كتب المالكية، ويعتبر الفقهاء هاهنا (ص ٢٢٣) أصلا آخر، وهو أن من أثبت حكما أولى ممن نفاه.
وقد وقع عندنا في المذاهب قولان في شاهدين شهدا أن فلانا قتل فلانا ساعة كذا، وشهد آخران أن القاتل كان عهما تلك السعة بمكان آخر، يعلم منه أنه ما حضر القتل، هل يقدم شاهدا القتل لأجل أنهما اثبتا حكما، وهو إباحة إراقة دمه قصاصا، بعد أن كان الأصل أن دمه مصان غير مباح، أو تسقط الشهادتان لتعارضهما؟
وكلك لو شهد اثنان بأنه تكلم بكلمة هي "طالق لزوجته، وقال آخر: بل هي عتق لغلامه.
وكذلك لو شهد شاهدان أن هذا مات نصرانيا، وقال آخران: بل مسلمًا، وتنازع النصارى والمسلمون من أولى بميراثه.
وكذلك إذا شهد شاهدان بأنه وصى عند موته وهو ثابت العقل، وقال آخران: بل فاسد الميز فقيد العقل. على ما عرف من أحكام المسائل المذكورة، بعضها في المدونة وبعضها في غيرها.
وإنما بسطنا لك هذا لتعليم طريقة الفقهاء فيه، وتستدل بأجوبتهم في هذه المسائل على مسألتك ماذا يقولون فيها ما إنا ذكرنا عنهم الخلاف في عينها على حسب ما نقلناه لك، ولكن الفقهاء إنما يتكلمون على ذلك في أحكام الشهادات وفصل القضاء إذا اختلف على القاضي المعدلون والمجرحون.