متى أملى من غير صحيفة، فإنه مهما شك في شيء، فإنه لا يورده إيراد موقن به، لأن هذا كالكاذب، وهو خلاف صفات العدول، وأما إن كان الأستاذ لا يعول فيما يمليه أو يُرئه على حفظه، وإنما يعول على كتابه، فإن الحال يختلف في هذا أيضا، فإن كان الأستاذ يتحقق أنه قد سمع جميع ما في كتابه جملة وتفصيلا، ويقف على عين كل حديث، ويتحقق سماعه إياه، ويعلم عين ما سمعه منه، فلا شك أيضا في الثقة به وصحة الراوية عنه، ووجوب العمل بما حدث به. وإن كان يعلم سماعه لجميع ما في كتابه وأنه سمعه من ثقة، ولكنه نسي ممن سمعه، فذكر القاضي ابن الطيب هاهنا اختلافا في جواز الرواية لما في هذا الكتاب، وذهب [إلى] أنه لا يروي رواية معمولا بها، لأن هذا إن نسي من سمع منه الكتاب مع عدم تيقنه، وإنما عول على ظن وتخمين، فإن هذا يلحق بالكذب، وذلك مما لا يجوز له، كما لا يجوز لشاهد أن يشهد على ظنه فيما المطلوب به القطع.
فإن قيل: بل يجوز رواية هذا الكتاب والعمل به وإسناده على الظن، كما جاز للشاهد أن يشهد بملك سلعة لرجل رآها في يديه مدة طويلة، وهو يتصرف فيها تصرف الملاك. قيل: قد منع بعض الفقهاء التعويل في الشهادة بالملك على هذا، ومن أجازه منهم فإنه يرى أن هذا الشاهد لو حكى القاضي صورة ما رأى لحكم القاضي للمشهود له بحكم الملك، وأقر يده على السلعة بكون الشرع جاء بأن اليد دليل الملك، ولو ساغ لهذا الراوي أن يبني روايته على الظن، لساغ لشاهد أن ينقل الشهادة عن شاهد آخر يظن أنه أمر بنقلها عنه، ولا يتيقن ذلك منه، وهذا مما لا يقوله أحد.
وذكر القاضي أن الشافعي أومأ في رسالته إلى قبول مثل هذه الرواية، لأنه قال: لا يحدث المحدث من كتابه حتى يكون حافظا لما يه، وهذا يقتضي أنه إنما أشار إلى من جهل شيخه الذي سمع منه الكتاب، لأنه لو علم شيخه الذي حدثه بالكتاب لم يشترط حفظه إياه، لأن من علم شيخه الذي حدثه، وعلم بأنه حدثه بجميع ما في كتابه فإنه لا يشترط فيه أن يكون حافظا لما في كتابه، وهو الذي تأوله القاضي، وقد تأول غير القاضي هذا الكلام الذي وقع للشافعي على غير هذا التأويل كما سنذكره. فهذا حكم من تحقق (ص ٢٣١) سماع جميع ما في الكتاب جملة وتفصيلا، وقد علم هذا السامع غير من حدثه أو نسي من حدثه، وبالجملة فعندهم أنه تحقق سماع جميع ما في الكتاب ممن علم ثقته وعدالته، ولكنه جهل عينه، فإن هذا الحديث يلحق بالمراسيل، وقد ذكر من أمثلتها هذا القسم، ولكنا إنما ذكرناه هناك عن راو حدث عن عدل عنده ثقة، ولم يسمه، ولكنه ما