للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التواتر إنما مستندها العادات، هي الحاكمة فيها، فكان من قال: إن المقل لا يعمل بروايته تخيل استرابة من ناحية العادة [التي] قدمنا ذكرها، وهي كون ذلك يؤذن بقلة عنايته بالحديث ومعرفته بأهله، ومن كان كذلك لم يوثق بحديثه.

والجمهور غلطوا اصحاب هذا التخيل ولم يروا هذا خارما للثقة، والثقة وإن تفاوتت مراتبها فإنها لا يطلب منها في الأخبار غايتها، بل إنما يطلب حصول الثقة على الجملة، وهي حاصلة هاهنا، وقد كانت الصحابة تقبل خبر الأعرابي ومن لا يعرف بحفظ الحديث والإكثار من الرواية. وقد يتفق سماع حديث واحد من عدل، ثم تقطع القواطع عن الازدياد، فلا تقف صحة روايته لهذا الحديث على الازدياد، بخلاف العادة في المفتي، فإن لم يعن بنفسه في مواضبة العلماء والأخذ عنهم، وطول الأزمنة في القراءة عليهم والتلقي منهم لم يحصل في مرتبة الفتوى، ولا يكون لها أهلا، لما أشرنا إليه من جريان العادة بالحاجة في ذلك إلى لقاء العلماء والاستكثار من الأخذ عنهم، والتحسس إلى مراميهم ومسالكهم فيما يتأملون ويفتون به.

وكذلك ما ذكرنا من الخلاف في انفراد أحد التلامذة برواية حديث دون بقية أصحابه، فإن من رد ذلك تخيل هذا ريبة، واستبعد أن لا تعلم الجماعة من ذلك ما علمه هذا المنفرد.

ورأى الجمهور أن هذا ليس بريبة، ومن الممكن أن يكون الشيخ خص هذا في بعض خلواته بأن أرواه حديثا آثره به على أصحابه، أو كان غافلا عن ذكره فذكره حين أرواه لهذا التلميذ، أو يكون اقتضى حال في تلك الخلوة ما أراده فأورده على هذا المنفرد، ولم يقتض الحال في أيام اجتماع التلامذة إيراده عليهم. ويمكن أيضا أن يكون روى هذا الحديث وهم منصرفون، وهذا المنفرد لم ينصرف، فحصله دونهم أو كانوا على بعد من مجلس الشيخ، وهذا المنفرد على قرب منه، بحيث يسمع ما يخفيه من ألفاظه، فأخفى صوته بحديث فسمعه هذا دونهم.

وطرق الإمكانات لا تكاد تحصى، وإذا أمكن هذا كله لم تقع ريبة في انفراده، فوجب قبول خبره، ولو جعل هذا ريبة لذهب معظم الشرع من أيدينا، لأن أكثر مجالس النبي عليه السلام، إنما كانت لجملة من الناس، وانتصابه لبيان الأحكام لم يكن لقوم دون قوم، ونرى أكثر الأحاديث ينفرد بها رجل من الصحابة، فيروي صاحب حديثا، ويروي آخر حديثا، حتى يأتي على سائر الأحاديث، فنجد كل واحد منها إنما رواه الواحد أو الآحاد، ولم يكن انفرادهم بهذا ريبة، وهذا واضح.

<<  <   >  >>