فمنهم من قال: لا يقبل خبر واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما تعم البلوى به، ذهب إلى هذا الكرخي وغيره من متأخري أصحاب أبي حنيفة، وبه قال ابن خويز منداد من أصحابنا، وأضاف هذا المذهب إلى مالك، واستنبط هذا المذهب لمالك رضي الله عنه لما قيل له: إن قوما يقولون: إن التشهد فرض. فقال: أما كان أحد يعرف التشهد؟ فأشار إلى أن الانفراد بعلم هذا لا يصح، لأن من شأن أن يعرفه الجميع. وكذلك قصته مع أبي يوسف عن الآذان، فقال له مالك: وما حاجتك إلى ذلك؟ فعجبا من فقيه يسأل عن الآذان، ثم قال له مالك: وكيف عندكم الآذان؟ فذكر مذهبم فيه الذي ذكرناه في كتبنا الفقيهات، وهو مشهور في الكتب. فقال له مالك: من أين لكم هذا؟ فذكر له أن بلالا لما قدم الشام سألوه [أن] يؤذن لهم، فاذن لهم بما ذكرناه. فقال له مالك: ما أدري ما أذان يوم، وما صلاة يوم، ها مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم وولده من بعده، يؤذنان في حياته وعند قبره، وبحضرة الخلفاء الراشدين من بعده. فاشار مالك ئة [إلى] أن الأذان لما كان مما تعم البلوى به لم يقبل فيه مثل الخبر الذي أورده أبو يوسف على انفراده وشذوذه، مما أشار ابن خويز منداد في استنباط ما استنبطه عن مالك.
ومثل هذا الاستنباط لا يصح التعويل عليه في إضافة مذهب إلى إمام وإسناده إليه، لأن مالكا عفا الله عنه لم يرد ما رواه أبو يوسف في الأذان بمجرد ما أشار إليه ابن خويز منداد من كون الأذان مما تعم البلوى به، لكنه قابله بأخبار أخر أثبت منه وأظهر وأصح وأشهر، ولا ينكر أحد ويريد تقدمة خبر على خبر، فلا يحسن أن يضاف إلى مالك أنه لا يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى لأجل هذا الذي نقله ابن خويز منداد عنه وتعلق به.
وكذلك ما أورده في التشهد لم يذكر فيه أنه نقل خبر، وإنما نقل إليه ذهاب قوم إلى مذهب فاشار إلى إنكاره عليهم، فيكون مذهبهم كالمبتدع الذي بخلاف ماعليه من تقدم. والنظر في هذا الاستدلال عليهم غير متعلق بما نحن فيه، وإنما يتعلق بما نحن فيه ما نبهناك عليه من كون ما تعلق به ابن خويز منداد غير صحيح.
وذهب جماعة من الفقهاء والأصوليين إلى العمل بخبر الواحد فيما تعم البلوى به، وهو الذي نصر القاضي أبو محمد عبد الوهاب من أصحابنا، وقد قدمنا لك في صدر هذا الكتاب نكتة إذا عرضت عليها هذه المذاهب بأن لك وجه الحق فيها، وسبب اختلاف أهليها، لأنا قدمنا أن الأخبار منها ما يقطع على كذبه، ولا شك أن ما كان هكذا فإن ورود التعبد به لا يحسن، كما أن ما قطع على صدقه يحسن ورود التعبد به، وكذلك ما ظننا صدقه