الصناعة الفنية، ومن جهة المبدأ أقرب إلى الموضوعية العلمية منه إلى الذاتية الشخصية، على حين نجد كتابة ابن غرسية رسالة شخصية يستعمل فيها كل التعبيرات الفنية من ترادف وطباق، وتلاعب بالألفاظ، وتعريض، وتضمين واقتباس، ورمز إلى حوادث أدبية وحقائق تاريخية، مما يطبع الرسالة الفنية بالطابع المطلوب. كما أن نمو وسائل الأسلوب الفنى وتنوعها على الصورة التي يستخدمها كتاب القرن الخامس قد أعارت قلمه أحيانا لون التهكم والفكاهة الذي استغنى عنه جدل الشعوبية بالمشرق.
ومما يجدر ذكره أن المشرقيين حين يقولون «العجم» فإنهم يعنون الفرس، على حين يتسع مدلول هذه الكلمة عند الأسبانيين فيشمل الروم وبنى الأصفر.
وقد وازن ابن غرسية بين المميزات الطبيعية والخصال الخلقية بين عنصرى العرب والعجم ففخر ببياض العجم على سمرة العرب. ثم هو يقابل بين حياة العرب القدامى بين الإبل والشاء، وحياة الأكاسرة والقياصرة في ظلال السيوف والرماح، ويعقد مقايسة بين هاجر أم العرب، وسيدتها سارة أم العجم، ويتكلم في قناعة العرب بالشهوات الدنيا، كالطبل والزمر، ومعاقرة الخمر، ويذكر أن العجم يمتازون في لباسهم وطعامهم وشرابهم، ثم يفخر بأمجاد العرب السياسية والحربية والعلمية.
وأما أن محمدا (صلى اللّه عليه وسلم) كان عربيا فلا فخر في ذلك للعرب، فإن التبر من الترب، والمسك بعض دم الغزال، والماء العذب يستودع جلد المزادة البالي.
ثم ختم ابن غرسية رسالته بعبارات يستظهر بها التقوى، توهينا لما قد يشتم من كلامه مما قد يمس العقيدة الدينية، وهو في ذلك لا ينسى أن يتملق أميره بمدح، ويخلط باللين عنفا في مخاطبة صديقه.
ثم يتحدث جولدتسيهر عن مدى سرعة انتشار شعر أبى العلاء المعرى في الأندلس إذ تمكن ابن غرسية من الاستشهاد به. ويذكر من نماذج تأثير المعرى في الأدب الأندلسي تأليف ابن أبي الخصال رسالة عارض بها «ملقى السبيل»، ومعارضة رسالة «الصاهل والشاحج» لأحد شعراء الأندلس، وتأليف ابن السيد البطليوسى شرحا كبيرا لديوان أبى العلاء ولما يكد يمضى نصف قرن على وفاته.